قالتها بصوت يفيض كبرا وعزة جوفاء حين طلبت منها الخادمة الضعيفة أمام بوابة قصر الأفراح أن تفتح حقيبتها لترى إن كان بحوزتها هاتف به كاميرا “هل تعرفين من أنا” نظرت الخادمة في وجهها بخوف وانسحبت باستحياء شديد بعد أن رمقتها أختنا في الله بنظرات مزمجرة وأنفاس غاضبة.
على الرغم من مرور سنوات طويلة على ذلك المشهد، إلا أنه يقف في مقدمة القصص التي أذكرها كلما أطلت كلمة “كبر” على مخيلتي وأشعر بالخجل من وجودي في المكان الذي قيلت فيه والضيق من تواجدي مع تلك النوعية من البشر في فضاء واحد.
التكبر.. ذلك السلوك المشين الذي حرم الله سبحانه مرتكبه من دخول الجنة.. وعلى الرغم من أننا درسنا ولطالما سمعنا في مراحل حياتنا أن الاستكبار أنكر الأفعال وأقبحها في الإسلام حيث يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (لا يدخل الجنة من في قلبه مثقال ذرة من كبر) إلا أننا لازلنا نواجه في حياتنا شبه اليومية أفعالاً وتصرفات تنم عن قلوب مستكبرة ونفوس متجبرة، تجلس في مجلس فتجدها تتجاهل جميع الحاضرين وتبدأ بسرد قائمة طويلة من ممتلكاتها الثمينة وسياراتها الفارهة وسفراتها الباذخة، أو تجد البعض منهم يحظى بخدمة مستمرة من خدمه وحاشيته ويتقن إلقاء الأوامر عليهم بلا كلل أو ملل، ولكنه لا يجيد الابتسام في وجوههم أو السؤال عن أحوالهم وأحوال عائلاتهم، مدراء يتكبرون على مرؤوسيهم، وعساكر لا ينفكون عن زرع مسافات بينهم وبين جنودهم، ومسؤولون كبار قد يعيش المواطن ويموت قبل أن يرى أحد منهم يأكل بجانبه في مطعم، أو يتنزه من حوله في إحدى المولات، أو يحصل على فرصة لرؤيته في أحد الأماكن البسيطة التي يرتادها المواطن، وقد تكون الفرصة الوحيدة لتصادفهم فيها هي بشوارع الشانزليزيه أو شواطئ ماربيا وميامي. استكبار الراعي على رعيته برأيي هو أحد أبشع صور الكبر والجبروت، ومع الأسف أكثرها انتشارا في عالمنا العربي، ففي الدول المتقدمة تجد عمدة المدينة أو حاكم الدولة يتجول في الأسواق ويتنزه في الحدائق العامة ويتعشى مع عائلته في أحد مطاعم “البرجر” تحت حراسة أمنية غير معلنة، هؤلاء هم الذين يحبهم الرعية ويشعرون بقربهم من الشعب، أما هؤلاء المتقوقعون في بروجهم المشيدة وقصورهم ذات الأسوار العالية، فهم بعيدون عن هموم الشارع ونبضه، وبعيدون أكثر عن سير أروع قادة الإسلام وعلى رأسهم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم الذي كان يكرر بين أصحابه: “لا ترفعوني فوق قدري فإن الله اتخذني عبداً قبل أن يتخذني رسولاً” فسبحان الذي جعل أعظم الخلق وخاتم الأنبياء والمرسلين يتواضع ويقصد ويتكبر ويتجبر الآخرون.
كما أن عمر بن الخطاب عظيم المنزلة والمكانة والنسب، خليفة المسلمين وأميرهم، صاح في وجهه رجل قائلا: اتق الله يا عمر، فاستنكر قوله أحد أصحابه وزجره قائلاً: أتقول لأمير المؤمنين اتق الله! فقال عمر: دعه فليقلها لي نِعم ما قال، لا خير فيكم إن لم تقولوها ولا خير فينا إن لم نسمعها.
ويحكى أن العالم الفرنسي الشهير لويس بايستر مكتشف الجراثيم وأحد أعظم من أفادوا البشرية دخل مؤتمرا طبيا ً عام 1881 فوقف الحاضرون من العلماء والمثقفون تحية وإكراما ً له ولجهوده، وضجت القاعة بالتصفيق، فالتفت إلى أقرب شخص حوله معلقا: أظن هذا الهتاف من أجل ولي عهد فرنسا يبدو أنني حضرت متأخرا ً كالعادة.
هؤلاء هم العظماء مهما علت مراتبهم وارتفع شأنهم واتسعت شهرتهم لا يتمكن الغرور من نفوسهم الكبيرة، لشعورهم الدائم بأن ما قدموه لا يزال ضيئلا ً وما وصلوا إليه ما برح بسيطا ً وأن عقولهم لازلت تحتضن المزيد من الإبداع، ونفوسهم تزخر بمزيد من الإنجاز.. أما الفارغون الصغار ممن ورثوا ثروة أو حملوا مركزاً فيتباهون ليل نهار بها رغم أن لا فضل لهم ولا منة في ذلك، يمشون في الأرض مرحاً ويطلقون جعجعة دون أن نرى منهم طحناً.. لله في خلقه شؤون!.
نبض الضمير:
تواضع تكن كالنجم لاح لناظر
على صفحات الماء وهو رفيع
ولا تكن كالدخان يعلو بنفسه
على طبقات الجو وهو وضيع
Twitter:@lubnaalkhamis