الناس منذ تاريخ قديم لا يعرفون مصطلح الإجازة، وفي رأيي أن الإنسان بحاجة للاستجمام وليس الإجازة، وفرق بينهما:
الإجازة: الكف عن العمل؛ من أجل اللهو والفراغ وقد يتضمن صرف الأموال في المتع المادية، لأيام أو أشهر.
الاستجمام: من الجمام وهو الراحة؛ التي تعقب العمل المضني الشاق، لا يحد إلا بالقدر الذي يعيد للنفس والجسد والعقل نشاطه، يحدده المستجم، قد يكون لساعات أو أيام.
ومع دخول التعليم والعمل المنظم الأسبوعي والسنوي، تطلب ضبط هذا الاستجمام بساعات وأيام محددة وسميت إجازة، ولا بأس في ذلك، فالأمور تغيرت، والعمل الجماعي طغى على الفردي، فلا بد من هذا الضبط، وهذا ليس فيه خلل، الخلل في أمر آخر:
في التوسع الزائد في مدة الاستجمام، فمدته المشروعة الطبيعية محددة بما يعيد للإنسان نشاطه وحيويته .
عن ابن عباسٍ رضي الله عنهما قال: قال النبيُّ صلَّى الله عليه وسلم « نعمتانِ مغْبُونٌ فيهما كثيرٌ من الناس الصِّحَّة والفراغ « ( رواه البخاري ).
في هذا الحديث الشريف يخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم عن نعمتين من أجلِّ النِّعم التي وهبنا الله تعالى، ألا وهما نعمة الصحة التي بها يستطيع الإنسان أداء الأعمال الهامة، ونعمة الفراغ التي يستطيع الإنسان ملأها بكل مفيد.
ومع أن هاتين النعمتين متاحتان لكثير من الناس، إلا أن التفريط فيهنّ سمةٌ بارزةٌ لكثيرٍ منهم، ولو أنهم عرفوا أهمية هذه النعم وعملوا على توظيفها فيما أراده الله تعالى لزادت نِسبُ النجاح والتميز بين أفراد المجتمع.
النعمة الأولى : هي الصحة، وهي نعمة لا ينتبه لها المرء غالباً إلا عند السقم، فالكيِّس من اغتنم هذه الصحة، وسخّرها للعمل بما يعود عليه بالنفع في الدنيا والآخرة.
وأما النعمة الثانية : فهي نعمة الفراغ، وهو الوقت الذي أتاحه الله تعالى للعبد ليعمل فيه قبل أن يعمل الوقت فيه، فكلُّ يومٍ يمرُّ يأخذ يوماً من عمر ابن آدم، يقول الخليفة عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى : « إن الليل والنهار يعملان فيك فاعمل أنت فيهما «.
وما المرءُ إلا راكبٌ ظهرَ عمرِه --- على سفَرٍ يُفْنِيِه باليومِ والشهرِ
يَبيتُ ويُضْحِى كل يومٍ وليلةٍ --- بعيداً عن الدُّنيا قريباً إلى القبرِ
والناس متفاوتون في القدر الذي يستفيدون فيه من أوقاتهم، فمنهم من يغتنم من وقته شيئاً يسيراً، ومنهم من يقتله باللهو والعبث، غير أننا لو نظرنا إلى شريحة المتميزين من البشر لوجدنا أنهم جميعاً يهتمون بالوقت اهتماماً بالغاً، ويحسنون توزيعه وإدارته، فهو رأس المال الذي إن ذهب فإنه لا يعود.
ولقد نبَّه علماء التنمية البشرية في العصر الحديث على أهمية الوقت، وعدُّوا اجتماع الطاقة البشرية ( الصحة ) مع حسن إدارة الوقت والاستفادة منه والمحافظة عليه؛ من أهمِّ أسرار النجاح والتميز ، وليس هذا الكلام مجرد نظرية مدوَّنةٍ في الكتب، بل هو حقيقة يستطيع أيُّ فرد أن يعيشها ويترجمها واقعاً يجدِّد به نمط حياته.
فقد سطر لنا تاريخ الأمة الكثير من الشخصيات التي استطاعت أن تجمع بين حفظ الوقت وملئِ الفراغ بما يعود عليها وعلى الأمة بالرُّقي والتحضُّر والتميُّز .
وهذه الشخصيات الرائعة من علماء الأمة وقادتها لم تصل إلى ما وصلت إليه إلا بالجد والعمل، وحسن إدارة الوقت واستغلاله، ولنا في أسلافنا أسوة حسنة، فالسير على طريقهم هو السبيل الوحيد للنهوض بالأمة من غياهب الكسل والخمول والجهل، إلى آفاق الحضارة والتقدم والرُّقي.
ويمكن لكل فردٍ أن يصل إلى ما وصل إليه المتميزون من النجاح (بعد توفيق الله تعالى)، شريطة أن يُعيد برمجة حياته بطريقة صحيحة بعيدةٍ عن اللهو والعبث الذي هو في الحقيقة من أهمِّ المعوِّقات التي تحول بيننا وبين التقدم الحضاري والصعود بين الأمم.
ومما يعين على تنظيم الوقت وحسن استغلاله والاستفادة منه:
1 - الدعاء الصادق بأن يبارك الله سبحانه في الأوقات، وأن تكون عامرة بما يرضاه، (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ)( البقرة، 186) ,
2 - التوكل على الله، والأخذ بالأسباب المعينة على حفظ الوقت من الضياع، ومن ذلك:
أولاً: وضع خطة واضحةٍ ومقسَّمة على مراحل، تحددُّ فيها المراحل بوقت يتناسب معها.
ثانياً: التخلص من كل الملهيات التي قد تعترض أو تعيق العمل، ويدخل في ذلك تقليل المشاغل الثانوية التي يمكن الاستغناء عنها.
ثالثاً: ترتيب الأولويات ( الأهم فالمهم ) .
رابعاً: تنمية صفة الانضباط الزمني.
خامساً: توزيع الوقت على المهام بدقة، ومعرفة أن فعالية الوقت ليست في طوله، ولكن في مهارة توزيعه.
3 - النظر في سير الأعلام والمشاهير من السابقين واللاحقين وتأمل الإنجازات التي قاموا بها، من أجل تنمية الشعور بأهمية الوقت، وإدراك أهميته، ومن أجل الاستفادة منهم في طريقة تقسيم الوقت والاستفادة منه.
4 - من خصائص الوقت أنه إذا ذهب فإنه لا يعود، ومع هذا فهو رأس المال الذي لا غنى عنه لمن أراد أن يتميز و يرقى في سلم النجاح.
5 - معرفة أن توظيف الصحة في أداء الأمور النافعة، وملءُ الوقت بها؛ هو شكر لله تعالى على هذه النعم، قال تعالى (اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُور)( سبأ، آية13) .
6 - معرفة أن العبد مسؤولٌ يوم القيامة عن هذه النعم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « لا تزولُ قدما عبدٍ يوم القيامة حتى يُسئل عن عمُرهِ فيمَ أفناه، وعن علمهِ فيمَ فعل، وعن مالهِ من أينَ اكتسبهُ وفيمَ أنفقهُ، وعن جسمه فيمَ أبلاه» ( رواه الترمذي وقال: هذا حديث حسن صحيح ) .
ختاماً، علينا أن نتذكر أن الصحة والفراغ نِعمٌ أتاحها الله لكثير من البشر، ومع هذا فإن التميز والنجاح يبقى متاحاً لمن استطاع أن يستفيد من هذه النعم.
أسأل الله تعالى أن يبارك لنا جميعاً في أقوالنا وأفعالنا وأوقاتنا . وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
الإدارة العامة لتطوير الخطط والمناهج بوكالة الجامعة لشئون المعاهد العلمية بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية