|
يمكن القول إن المملكة العربية السعودية كانت سابقة لغيرها من دول مجلس التعاون في مهنة المحاسبة والمراجعة ويرجع الفضل في ذلك لله ثم للجهود المتضافرة للرواد الأوائل في هذه المهنة.
وبالرغم من تأخر إنشاء الهيئة السعودية للمحاسبين القانونيين إلا أن قوة انطلاقها قد خفف من آثار هذا التأخير فقد تم إصدار العديد من المعايير خلال فترة وجيزة وتم إصدار العديد من التنظيمات في المهنة والتي كان من أهمها على الإطلاق هو اختبار الزمالة المحاسبية والتي تم ربط الحصول على ترخيص مزاولة المهنة لاحقا باجتياز هذا الاختبار.
مرت الهيئة منذ تأسيسها بعدة مراحل كان أول هذه المراحل هي مرحلة الاستنفار للحاق بالركب العالمي للمهنة وقد كانت أبرز سمات هذه المرحلة هي كثرة المنتجات والإصدارات والتي كانت تتم من خلال دعم كبير لنشاط الترجمة لآخر ما توصلت له المهنة عالميا وخصوصا في الولايات المتحدة وإصدار المعايير والتنظيمات ثم إصدار التنظيمات والمعايير بعد تطويعها مع البيئة المحلية.
ويمكن القول إنه كان من البديهي خلال هذه المرحلة ظهور بعض العوائق والتي حالت دون الارتقاء بالمهنة بالصورة المأمولة في ذلك الوقت.
وهذا يعد طبيعيا في ظل انطلاقة قوية في الإصدارات والتنظيمات مع وجود قدر من الضبابية في الرؤية وقلة المعلومات المتوفرة حول طبيعة البيئة المحلية.
لقد قامت اللجنة المكونة لتنفيذ برنامج مراقبة جودة الأداء المهني بالقيام بزيارات لمكاتب المحاسبة والمراجعة وذلك لفحص جودة عمل هذه المكاتب وقد أتمت دورتها في عام 2006م.
تبين لاحقا من نتيجة هذا الفحص وجود فجوة كبيرة بين مستوى الجودة المطلوب وبين المستوى المحقق من الجودة مع وجود ضعف ظاهر في الأداء المهني للمحاسبين وهو الأمر الذي أدى بدوره مع عوامل أخرى لنشوء مرحلة أخرى وهي مرحلة تقويم وتطوير نتاج المرحلة السابقة.
كان أبرز ملامح هذه المرحلة قيام مجلس إدارة الهيئة بقيادة وزير التجارة الدكتور توفيق الربيعة بإصدار قرار يقضي بطلب تصور مكتوب من المحاسبين القانونيين حول نظام المحاسبين القانونيين ولائحته التنفيذية، وإذا ما أضيف إلى ذلك مشروع إعادة مراجعة المعايير والتي تمت بعد طلب من هيئة سوق المال وهو الأمر الذي يعني الدخول في مرحلة جديدة وهي مرحلة إعادة بناء المعايير..
ما يهمني حاليا هو عرض تقويم لواقع الثواب والعقاب في نظام المحاسبين القانونيين المعمول به حاليا ثم وضع مقترح عملي للثواب والعقاب لممارسي المهنة.
قامت لجنة التحقيق في مخالفات المحاسبين القانونيين بإصدار قرارات تتضمن عقوبات تتراوح في غالبها بين اللوم والإنذار والإيقاف لمدة ستة أشهر في حق عدد من المحاسبين .
وبالرغم من قناعتي بالجهود المبذولة من الهيئة لتطبيق العقوبات الرادعة في حق المخالفين إلا أن المشكلة تكمن في عدم انسجام الأنظمة والمعايير مع بعضها البعض من جهة وعدم انسجامها مع الواقع العملي من جهة أخرى وهو الأمر الذي أدى إلى وجود فجوة كبيرة بين الواقع العملي وبين الأطر النظرية بالرغم من صدور هذه القرارات والأحكام.
وبناء على ما تقدم فإنني سأعرض فيما يلي تصورا لمشروع أسميته (تصنيف المحاسبين) وهذا المشروع قائم على ضرورة استحضار بعض الخلفيات الهامة والتي سأعرضها ثم سأقوم بعرض آليات هذا المقترح:
أولا: خلفيات هامة:
1- أن طبيعة مهنة المحاسب القانوني في ظل الأنظمة والمعايير الصادرة في المملكة تفرض عليه لبس عباءة القاضي والتاجر والمهني على حد سواء.
2- أن نظام المحاسبين القانونيين ولائحته التنفيذية وآداب سلوك المهنة بوضعه القائم لا يحوي إلا تعليمات وإجراءات ومعايير كلها تتفق في الصياغة اللغوية المثالية للوضع الذي يجب أن تكون عليه المهنة دون وجود أدلة وإرشادات تفصيلية منبثقة من الواقع ومشاكله من الممكن أن تقود بحرفية لتحقيق هذا المستوى من المهنية.
3- في الجانب الآخر نجد أن هذه الأنظمة والتعليمات تتضمن عقوبات عامة متفاوته بصورة كبيرة وغير واضحة المعالم من حيث عدم ارتباطها بمخالفات محددة للمساهمة في تحقيق أمرين وهما:
أ- ردع المحاسبين عن التلاعب بالمهنة لحساباتهم الشخصية.
ب- حماية المحاسبين والمستفيدين من خدمات هؤلاء المحاسبين على حد سواء من اجتهادات لجنة التحقيق في مخالفات المحاسبين التي تجانب السواء لأي اعتبار من الاعتبارات.
لذا فإن وجود هذا القدر من الضبابية في إثبات المخالفات واختيار أي من هذه العقوبات التي تتلاءم معها سيؤدي إلى عدم فاعلية هذه العقوبات في ردع المخالفين حيث تتحول هذه العقوبات إلى شكليات غير مؤثرة في الواقع العملي بل ويمكن في بعض الأحيان أن يكون تأثيرها سلبيا حينما يتم إيقاع بعض العقوبات على محاسبين آخرين غير مستحقين لها.
4- إذا ما تم استثناء الخدمات ذات الطبيعة الاستشارية والتي تتواطأ فيها مصالح وأهداف العميل مع أهداف المحاسب فإن واقع المهنة في المملكة يظهر أن الطلب على خدمات المحاسبين القانونيين غالبا ما يكون دافعه الأساسي هو الإلزام القانوني من بعض الجهات الحكومية وليس قناعة المكلف بأهمية خدمات المحاسب لهم وهي تتضمن ما يلي:
أ- البنوك.
ب- وكالة تصيف المقاولين.
ج- هيئة سوق المال.
د- مصلحة الزكاة والدخل.
هـ- وزارة التجارة.
و- مؤسسة النقد.
ط- وزارة المالية.
ي- وزارة العدل والمحاكم الشرعية.
وعليه فإننا إذا افترضنا أن هذه الجهات توقفت عن إلزام عملائها أو الجهات التي تتعامل معها بطلب خدمات المحاسبين فإن غالب هذه الجهات أو الأفراد سيتوقفون فورا عن طلب هذه الخدمات لذا فإن المستفيد الفعلي والمباشر من تلك الخدمة هي هذه الجهات الآنفة الذكر.
5- أن الخدمات ذات الطبيعة الاستشارية مثل إعداد لوائح مالية غالبا ما يتم تقديمها من المكاتب الأربعة الكبيرة وهي خدمات غالبا ما تتواطأ فيها مصلحة وأهداف العميل مع مصلحة وأهداف المحاسب القانوني حيث يتفق الجميع على ضرورة ظهور المنتج الاستشاري بأفضل صورة ، في حين نجد أن الخدمات الأخرى مثل إصدار رأي مهني عن قوائم مالية أو وضع مالي وهي التي تشترك المكاتب الكبيرة والصغيرة في تقديمها تتعارض فيها مصلحة وأهداف العميل عن مصلحة وأهداف المحاسب حيث يبحث العميل عن مصلحته إما في تحسين نتائجه لغرض تقديمها للبنوك أو وكالة تصنيف المقاولين أو لهيئة سوق المال أو يبحث في تخفيض نتائجه لغرض تخفيض قيمة الزكاة أو الضريبة وهكذا.
6- أن المعايير المهنية ونظام المحاسبين القانونيين ولائحته التنفيذية وآداب سلوك المهنة بوضعه القائم يتعامل مع الأحجام والأشكال المتفاوتة من طالبي الخدمات المهنية بصورة متماثلة تقريبا وغالبا ما يفترض أن طالب الخدمة هو شركة مساهمة كبيرة لها مجلس إدارة وجمعية عمومية ...إلخ ومقدم الخدمة هو مكتب كبير لديه تدرج إداري وفني في الوظائف ، وهو الأمر المغاير للواقع حيث إن طالبي الخدمات المهنية ومقدميها متفاوتون في أحجامهم وأشكالهم ومصالحهم وهذا يعد خللا ظاهرا في هذه الأنظمة والتعليمات والمعايير.
7- غياب الحوافز الباعثة للتركيز على الجودة في تقديم الخدمات المهنية حيث يشجع سوق الخدمات المهنية على كسب عملاء جدد على حساب الجودة والمهنية أحيانا ، فيمكنك أن تتصور أن الذي يؤدي عمله باحترافية ومهنية واستقلالية وأمانة يكون ثوابه غالبا هو خسارة العميل وعدم تجديد العقد والدخول أحيانا في مشاكل مع هذا العميل في حين أن الذي يؤدي عمله لتحقيق مصالح العميل دون مراعاة للجودة والمهنية والأمانة يكون ثوابه التجديد وزيادة الأتعاب أحيانا ومكافأته بأعمال أخرى.
8- لما تأخرت الجهات المعنية بالمحاسبين وخدماتهم في تبني مثل هذا المشروع قامت بعض الجهات المستفيدة من الخدمات المهنية للمحاسبين إلى تطبيق هذا المشروع بصورة فردية واجتهادية فقامت بالفعل بإصدار قوائم تم تصنيف بعض المحاسبين فيها لثلاثة فئات (A و B و C ).
ثانيا: نبذة عن هذا المقترح ومتطلبات تطبيقه والآثار المتوقعة بعد التطبيق:
نبذة عن المقترح:
تقوم فكرة هذا المقترح على إعادة تقسيم حصص سوق الخدمات المهنية نسبيا بناء على تقييم مستوى الخدمات المهنية المقدمة من المحاسب القانوني من خلال تصنيف المحاسبين بناء على معايير الجودة المهنية إلى عدة تصنيفات كل تصنيف منها يحق لها تقديم الخدمات للشريحة التي يقع فيها فقط أو التي دونها فيتم من خلالها مكافأة المحاسب القانوني الكفء والذي يؤدي عمله باحترافية ومهنية بتصنيفه أعلى التصنيفات والذي سيتيح له الدخول في شريحة جديدة في سوق الخدمات المهنية مما يعني بالضرورة مكافأته بزيادة حصته من السوق وفي المقابل يتم معاقبة المحاسب القانوني الأقل كفاءة بتخفيض تصنيفه إلى مستوى أدنى وبالتالي يفقد جزءا من حصته السوقية نظرا لتقلص الشريحة التي يحق له تقديم الخدمات المهنية لها.
متطلبات تطبيق هذا المقترح:
يمكن القول بأن أبرز متطلبات تطبيق هذا المقترح ما يلي:
1- إصدار دليل يتضمن درجات تصنيف المحاسبين ومواصفات ومزايا كل درجة من حيث حصتها في سوق الخدمات المهنية وشريحة الشركات والمؤسسات التي تدخل في كل درجة وذلك وفقا لحاجات طالبي الخدمات الفعلية وهم البنوك وهيئة سوق المال ومصلحة الزكاة والدخل ووزارة التجارة ووكالة تصنيف المقاولين.
2- إنشاء هيئة مستقلة عن هيئة المحاسبين القانونيين تكون مهمتها تصنيف المحاسبين وتتصل مباشرة بوزير التجارة ويكون لها نظامها المستقل والذي يتضمن معايير تعيين واختيار أعضاء مجلس إدارة هذه الهيئة ونظامها الداخلي والمؤهلات اللازمة لطاقم العمل الذي سيقوم بمباشرة مهام التصنيف وتكون ميزانيتها على نفقة الجهات المستفيدة وهي البنوك وهيئة سوق المال ومصلحة الزكاة والدخل ووكالة تصنيف المقاولين ووزارة التجارة وتكون مهمتها إجراء تقييم بصورة ربع أو نصف سنوية لجميع مكاتب المحاسبة على ضوء دليل معايير التصنيف والجودة.
3- إصدار دليل يتضمن معايير الجودة والتي يتم على ضوئها تصنيف المحاسبين من قبل هيئة التصنيف وذلك بصورة واضحة ومفصلة وقابلة للقياس على أن تكون مهمة إصدار هذا الدليل وتحديثه من مهام الهيئة السعودية للمحاسبين إما بموجب توصيات من الجهات المستفيدة أو من المحاسبين أنفسهم أو من هيئة التصنيف.
الآثار المترتبة على تطبيقه:
من المتوقع أن تظهر بعض الآثار الإيجابية فور تطبيق هذا المشروع من أهمها ما يلي:
1- ارتفاع مستوى الخدمات المهنية في السوق السعودي حيث سيعمل المحاسب إلى تحسين مستوى خدماته وذلك ليتم تصنيفه بدرجة أعلى وبالتالي يدخل في شريحة تزيد حصته السوقية من سوق الخدمات المهنية وفي المقابل المحاسب الذي لا يحافظ على المستوى المهني المطلوب عند تقديمه للخدمات المهنية سيجد نفسه يفقد حصة من السوق بسبب تصنيفه بدرجة أقل مما كان في السابق إلى أن يضطر إلى الخروج من سوق الخدمات المهنية.
2- ارتفاع وعي المحاسبين بالمعايير المهنية وذلك نظرا لأن جهلهم سيتسبب لهم في الوقوع في مخالفات أو أخطاء يفقدون على إثرها جزءا من الحصة السوقية أو قد يضطرون إلى الخروج من السوق ما لم يبذلوا وسعهم لبذل المزيد من المهنية لتصحيح درجة التصنيف.
3- زيادة الموثوقية في التقارير المهنية للمحاسبين والتي تقدم للجهات المستفيدة.
4- ارتفاع الحصيلة الزكوية والضريبية .
5- تخفيض مستوى مخاطر الإقراض والاقتراض نظرا لزيادة الموثوقية في أرقام القوائم المالية المدققة.
6- ارتفاع مستوى دقة التقارير المالية الصادرة عن وزارة التجارة ووزارة المالية ومؤسسة النقد نظرا لزيادة الموثوقية في القوائم المالية المقدمة لهذه الجهات والتي تم تدقيقها من هؤلاء المحاسبين.
7- إعادة توزيع حصص سوق الخدمات المهنية وفقا لمستوى الجودة وهو الأمر الذي يعني زيادة سريعة في حصص بعض المكاتب والشركات المهنية والتي تركز على الجودة في مقابل انخفاض حاد في حصص البعض الآخر وخروج غير المهنيين من سوق المهنة بصورة تدريجية وعادلة.
8- توفير مرجع موضوعي متجدد لمستوى وجودة خدمات المكاتب والشركات المهنية لطالبي الخدمات المهنية من غير الشريحة الأساسية المستفيدة.
9- انخفاض حالات الغش والتلاعب في التقارير والقوائم المالية.
10- من الممكن تعميم هذه الفكرة على سوق الخدمات المهنية للمحامين والمهندسين والأطباء وغيره.
وأخيرا بقي أن أقول إن ما ورد في هذا المقال مبادرة إصلاحية قد أردت فيها الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله .. والله أعلم
- محاسب قانوني
@tmash388