عندما يمرض الصغير تمرض معه أمه، تعيش حزنه، وتحس بألمه، وتبكي لبكائه، بل ربما تكون أشد تألماً لأنها تظهر العزيمة، وتتجلد من الداخل لتعينه على تحمل الألم، فيا لها من حانية. هذا الطفل الصغير، تراقبه أمه في مأكله ومشربه، ويقظته ومنامه، تسعد بسعده، وتشقى بشقائه، إن نجح في الامتحان نجحت، وإن لم يسعفه الحظ تحسرت، فهو الجزء الأكبر من حياتها، وفي حياتها لا ترى مستقبلاً غير ذلك المرتبط به.
تفعل ذلك بطريقة فطرية، وعاطفة جياشة، لا مراء فيها ولا مطمع، في حاضر أو مستقبل، وهي مع هذا تبهج بهذه العاطفة المتدفقة من وجدان مليء بالحب الخالص الطاهر الصادق، لتبعث الأمل والأمن في قلب ذلك الطفل الذي لا يعرف من متاعب الدنيا إلا القليل الذي يعيشه في يومه، دون توقع لمستقبله، وقد تكون براءة الطفل في ذلك الاقتصار على هذه النظرة الآنية، التي لا تمتد إلى الآفاق، وهذا خلاف ما أتعبنا وما زال من آمال كبيرة، نتعب لأجلها، ونصارع لنيلها، مع ما يصاحب ذلك من أفراح تارة، وأتراح تارة أخرى، لتمتلئ الدنيا بنبض الحياة، فتتم عمارة الأرض كما أرادها الله سبحانه وتعالى أن تكون.
والطفل عندما يرى ما يخافه فإنه يلجأ إلى ذلك الحضن الدافئ المليء بالحب والطمأنينة، يرى فيه سوراً منيعاً يحميه من غوائل الدهر، دون أن يعلم مقدار تلك الحماية وكنهها، فيرقد هنيئاً مريئاً لا يستمتع بسواه، أما الذين بلغوا الرشد فإن الإيمان بالله والتوكل عليه سيكون أعظم ملاذ، وأمنع سور، وأكبر جسر يسير فوقه المرء للوصول إلى الراحة والطمأنينة التي هي الغاية المرتجاة في هذه الدنيا بعد عبادة الله جل جلاله. لكن هناك من بني البشر البالغين من يلجأ إلى ما قد يراه ملاذاً مؤقتاً لجلب الطمأنينة له، لكن ربما يكون غافلاً أو متغافلا أن ذلك الملاذ غير الإيماني لن يكون دائماً، وإنما هو مؤقت، لا يستمر سوى بضع دقائق أو ساعات، ثم تزول الطمأنينة بزوال ذلك المؤثر، لتعود الأمور وكأنها لم تبرح مكانها.
الطفل لا يجامل فيما يريد أو فيما يرى أو فيما يقول لكنه في أحيان قليلة قد يلجأ إلى تجنب الصدق لتحقيق رغبة مؤقتة في غالب الأمر ليس لها تأثير على الغير، ومع ذلك فإنه يسهل استدراجه ليعود إلى قول الصدق دون عناء، وبغض النظر عما يترتب على ذلك. أما البالغ فإنه قد يستخدم دهاءه أو مكره في بلوغ شأوه، ونيل مبتغاه، مستخدماً ما لديه من وسائل وأدوات ومعاول قد يكون بعضها هداماً.
الإنسان البالغ حباه الله عقلاً يميز به، ورسالات سماوية، لا شك في حقيقتها، وتجارب بشرية تراكمت عبر السنين، فاجتمعت لديه قيم ومبادئ جليلة عظيمة، وبمقدار تطبيقه لها في حياته اليومية، يكون مقدار نجاحه سواء فرداً أو مجتمعاً، والنجاح ليس بالضرورة جمع المال أو الوصول إلى الجاه، فعامل الحظ يلعب دوراً كبيراً فيها.
الإنسان البالغ يتجاوز هذه القيم الجميلة لأن نيته ورغبته في التسلط، وتمتعه بذلك ظاهراً، دون طمأنينة في الامتثال بالحق وتجاوز الباطل. يحق لنا أن نقول أن الإنسان البالغ لا يختلف عن الطفل الصغير، سوى أن الطفل يظهر أنانيته بتلقائية، وبمطمع آني غير بعيد، في الوقت الذي يستمرئ البالغ نيل مراده، بنظرة بعيدة مستخدما في بعض الأحيان مكائده وحبائله للوصول إلى غايته، إلا إذا كان في داخله من القيم ما يحجبه عن ظلم الآخرين، والإضرار بهم حتى وإن كان في ذلك ما يحجب بلوغ غايته، وتحقيق أمانيه. جعلنا الله وإياكم من الهداة المهتدين الصالحين الجاعلين أعمالهم خالصة لوجه الله.