الأجهزة التنفيذية مصطلح إداري يعني مختلف الوزارات والإدارات التابعة لها والمجالس الوطنية وغيرها من المؤسسات التي تشكل مجتمعة الهيكل الإداري للدولة، وتقوم بأداء مهامها الدستورية تحت إمرة رئيس البلاد،
بوصفه رئيس السلطة التنفيذية ورئيس الدولة، كما هو الشأن في الولايات المتحدة الأميركية وفي فرنسا وغيرهما من الدول، وهذه المنظومة مجتمعة من الصعوبة بمكان... ففي العلاقات الخارجية مثلاً وفي شأن الأمن القومي، لابد لممارسي هذه الأمور وفي بيئة دولية معقدة تبني منظور شامل للأشياء، وهنا يكون دور الأشخاص مهماً جداً، وغالباً ما تظهر قيمتهم أو محدوديتهم عند الأحداث السياسية الكبرى.
فكثير من المراقبين مثلًا كانوا يظنون أن وزير الدفاع الأميركي السابق رامسفيلد كان رجلًا محدوداً، بسبب قيادته ورؤيته لدور الدفاع، وعلى رأس هؤلاء، المراقبون العسكريون والقوات العسكرية، ولكن سرعان ما كشفت الوقائع خاصة بعد أحداث 11 سبتمبر صلابة رامسفيلد وفظاظته ونوعية فكره الإستراتيجي، ونتذكر جميعاً نوعية الفكر المحدد للمحافظين الجدد في إدارة بوش الابن الأولى، التي غيرت تيار النظام الدولي، خاصة في الشرق الأوسط.
إن السمات الأربع للبنية الاستراتيجية الحديثة: التقلب والتوجس والتعقيد والغموض تدفع الرؤساء في أميركا إلى تبني آليات متعددة لأخذ القرار، ويلعب المستشارون دوراً كبيراً في هذا المجال. فإذا بقينا في مثال الولايات المتحدة الأميركية وفي سياستها الخارجية، نتذكر البون الشاسع في التفكير والتنظيم بين كولن باول وزير الخارجية في عهد بوش الابن ووزير الدفاع رامسفيلد. ونعلم هنا أن وزارة الخارجية والدفاع الأميركيتين مرتبطتان بالقوة العسكرية، فالتفوق والقوة العسكرية يعطيان الهبّة اللازمة للدبلوماسية الأميركية وهذه الأخيرة تحاور القوة العسكرية، لتخرج بنجاح سياسي، فباول كان يرفض التدخل العسكري دون شرعية أممية ودون موافقة أدبيات القانون الدولي، إلا أن الكلمة الأخيرة كانت لرامسفيلد، ولحد الساعة ما زالت تثار في كواليس الأجهزة الدبلوماسية والعسكرية الأميركية مسألة تحديد المسؤول المخطئ في الفشل الحالي في إرساء الاستقرار في عدة مناطق كالعراق.
إن كل متتبع للسياسة الخارجية والداخلية الأميركية، يخرج بنتيجة ذات مغزى كبير: عندما يتكئ الرئيس الأميركي على زمرة من المستشارين الموثوق بهم فقط، فإن ذلك يكون مطية لنشوء ظاهرة التفكير الجماعي الأحادي، والمشكلة هنا أن ثقة الرئيس اللامتناهية بهؤلاء المستشارين غالباً ما تكون نتيجة للتشابه والتناغم في العقليات بين أفراد المجموعة وأعني بذلك الإيديولوجيا السياسية والنظرة إلى النظام الداخلي وإلى العالم، والنتيجة النهائية هي أن الرئيس غالباً ما يسمع ما يعرفه مسبقاً ويعيه جيداً ويؤمن به أشد الإيمان، فتحصر بذلك صناعة القرار مركزياً في قمة هرم الدولة... فتبقى المعرفة الحقيقية عند المستويات الدنيا من النظام الهيكلي للدولة أو عند أناس لهم باع في الفهم والتفكير والتخطيط والتنظير هم أولى بالاستشارية من المستشارين الحاليين... ويحكى أيضاً أن وزير الدفاع رامسفيلد ونائب الرئيس تشيني وقد اعتبرا من الدائرة الضيقة الاستشارية لبوش الابن، كانا قد منعا من وصول معلومات مهمة عن قضايا حقيقية وأكيدة إلى أذني بوش، لأنهما منعا نظام التعامل المثلي والضروري بين المؤسسات والأجهزة كما هو مخطط أصلا... هذه أمثلة بسيطة نسردها هنا، ولو أرجع بوش إلى البيت الأبيض لما عاد إلى ما تنهاه عنه أصول الدهاء السياسي... فأنا على يقين أنه لن يستعين بالدائرة الضيقة للمستشارين الذين يثق في إيديولوجيتهم، بمعنى أن يسمع ما يريد أن يسمعه منهم.
إن المشاكل العديدة التي تطرق اليوم بعض الدول العربية كمصر وتونس، مرد بعضها إلى محدودية محيطي الرؤساء الجدد... والبيئة السياسة الداخلية معقدة جداً، وأعقد من الفترات التي خلت، وهي في حاجة إلى منظرين ومستشارين أكفاء أو لنقل إلى إستراتيجيين أكفاء، وصياغة الإستراتيجية فن وعلم معاً، إذ تحتاج إلى دراية وذكاء وعلم حقيقي ثم إلى بصيرة، “إذ لا شيء أكثر ضرراً من العمل من دون بصيرة”، كما يقول توماس كارليل... أما أن يأتي رئيس جمهورية أو رئيس حكومة فقط بمستشارين من مريديه، فلن يسمع إلا ما يريد أن يسمعه بل ولا يمكنه أخذ إجراءات مخالفة لنظرهم وإلا اتهموه بالخروج عن جادة الصواب... وفي فرنسا استعان ساركوزي بوزير الخارجية برنارد كوشنر وهو ليس من حزبه والأمثلة كثيرة... والكفاءة والنبوغ الذهني والدراسة والعلم الحقيقي هي الشروط الحقيقية لصياغة الإستراتيجية وتنفيذها على أرض الواقع... وإلا فإن الفكر والسياسة والإستراتيجية ستبنى على أسس خاطئة وستبوء المؤسسات بالفشل الذريع والدولة إلى الحضيض.
ويقول قيدوم الاستراتيجيين كارل كلوزفيتز (1780-1831) “إن تأثيرات دور العبقري لا تظهر كثيرا في المراحل الأولية أو الأنماط الجديدة للعمل كما تظهر في النجاح النهائي للعمل بأكمله. إن ما ينبغي علينا تقديره هو التنفيذ الدقيق للافتراضات غير المرئية وغير المعلنة، والانسجام السلس للنشاط في مجمله، وهذا لا يصبح جليا إلا عند تحقيق النجاح النهائي”؛ أسرد هذه المقولة لا لأقول إن الرئيس الأمريكي أوباما عبقري، ولكنه حاد الذكاء في فهمه للسياسة وللإستراتيجية والتطبيق وتنفيذها كثلاثة محددات متداخلة في السياسة الخارجية والأمن القومي الأمريكي. والعلاقة بين تلكم المحددات الثلاثة مترابطة وتعتمد على درجة تعقيدات البيئة الإستراتيجية والمستوى الهيكلي للخطر وطبيعة التخوف ومؤشرات التوقيت وبعد نظر القيادة التي تتربع على أعلى هرم في السلطة، ومختلف الخيارات المتاحة أمامها. الإستراتيجية والتخطيط لا يجب أن تتأثر بالأهواء السياسية الضيقة وإلا فان مآلها الفشل، كما أن الإستراتيجية تعامل السياسة على أنها أحد العوامل الرئيسية.
قارن معي التعيينات الأخيرة للرئيس أوباما: اختيار السيناتور السابق الجمهوري شاك هيغل وزيرا للدفاع، ثم اختيار جون برينان، مستشار مكافحة الإرهاب في البيت الأبيض لشغل منصب مدير وكالة الاستخبارات الأمريكية “سي اي إيه” ثم اختيار السيناتور الديمقراطي المعتدل جون كيري، وزيرا للخارجية. التعيينات لم تلق آذانا صاغية في عقر الانتماءات الحزبية للمعينين كشاك هيغل الذي ينتقده الجناح اليميني داخل الحزب الجمهوري على أنه يتساهل مع إيران، ويستعجل الانسحاب من أفغانستان ولا يؤيد إسرائيل تأييدا قويا؛ ففي عام 2006 أطلق انتقادات حادة تجاه الرئيس بوش الابن في سياسته نحو غزو إسرائيل لجنوب لبنان، وقال السيناتور الجمهوري بالحرف “يجب إنهاء الذبح المقزز من كلا الجانبين، ويجب أن ينتهي هذا الآن، ويجب أن يدعو الرئيس بوش لوقف إطلاق النار فورا.. يجب التوقف عن هاته الحماقات (...) علاقتنا مع إسرائيل خاصة وتاريخية لكن ليس من الضروري ولا يمكن أن تكون على حساب علاقاتنا العربية والإسلامية، هذا خيار زائف وغير مسؤول وخطير” وأنصح خبراء الإستراتيجية لقراءة مذكراته التي كتبها منذ أربع سنوات “أمريكا الفصل التالي.. أسئلة صعبة وأجوبة واضحة” حيث طور نظرية إستراتيجية مفادها أن الولايات المتحدة الأمريكية تحتاج على المدى المتوسط والبعيد إلى قيادة مستقلة غير القيادة التقليدية للحزبين الجمهوري والديمقراطي.
أوباما فهم أن الإستراتيجية الدولية أصبحت معقدة ومكلفة، وهي خاضعة للاستقرار وعدم الاستقرار، ويتزايد فيها عدم الاستقرار لارتفاع مستوى التفاعل تعرضها لعملية إعادة توازن جذرية جديدة. وهاته التغيرات تعكس اضطرابات في العوامل الأساسية للاستمرارية في البيئة الإستراتيجية، ومن هنا ضرورة وجود إستراتيجيين عباقرة على حد تعبير كلوزفيتز.