قبل ثلاثة أسابيع كانت مقالتي في هذه الصحيفة الغَرَّاء بعنوان “طأطأة الرؤوس أمام تَحدِّي إيران والروس”. وقد أشرت في تلك المقالة إلى أني عندما قامت الهَبَّة في سوريا منادية بالحُرِّية وإزالة ظلم المُتحكِّمين بالوطن السوري عقوداً
كنت أدرك أن وضع سوريا مختلف عن أوضاع بلدان عربية قامت فيها هَبَّات شعبية نجحت في إزالة المُتحكِّمين في شؤونها عقوداً. ذلك أن الوضع في سوريا مُستحكم العُقَد؛ داخليًّا وخارجيًّا. وبَيَّنت شيئاً من تلك العُقَّد على المستويين الداخلي والخارجي. ومما أشرت إليه، أيضاً، أن رئيس النظام السوري - منذ البداية - كان من الواضح أنه واثق من قوة الأسس التي هو معتمد عليها. وبَيَّنت شيئاً من تلك الأسس؛ داخليًّا وخارجيًّا.
ولقد قلت في تلك المقالة: إن من المؤسف أن مجريات الأحداث أثبتت أن ثقة الرئيس السوري وأقطاب نظامه بثبات وضعهم لم تكن مبنية على خَيالٍ شاعري؛ بل على واقع حسبوا حسابه بما رأوه كافياً لتلك الثقة. ولَعلَّ من الأمور المؤلمة أن تعامل الأمين العام للجامعة العربية مع الهَبَّة السورية، منذ بدايتها، يدَلُّ على أنه ليس الذي يرعى الأمانة التي حُمِّل مسؤوليتها. ومن ذلك أنه بدأ ذلك التعامل بالذهاب إلى سوريا؛ ومجازر النظام للمحتجين سلميًّا على أَشدِّها، والعودة من هناك بإعلانه للأُمَّة بأن الأسد وعده بالقيام بإصلاحات؛ وكأن الأمر لم يتطلَّب وقفاً لارتكاب تلك المجازر. ثم أعقب ذلك باختياره رجلاً معروفاً بسوء السيرة في دارفور ليكون رئيساً لفريق من المراقبين الذين تَقرَّر إرسالهم إلى سوريا لمراقبة مجريات الأحداث هناك. وقد أوضح أحد أولئك المراقبين؛ وهو جزائري صادق في حمل الأمانة، تَعمُّد إخفاء حقائق جرائم النظام الشنيعة المرتكبة بحق المنادين؛ سلميًّا، بالحُرِّية وإزالة الظلم. ولذلك استقال من الفريق، وكتب ـ فيما بعد ـ كتاباً أوضح فيه أسباب استقالته ومحاولة البعض طمس الحقائق.
وفي مقابل أمانة ذلك الجزائري الجديرة بأن تكون سَجيَّة لكل جزائري من وطن ضرب أهله أروع أمثلة للفداء بالأرواح من أجل وطنهم، وأصبحوا مَحلَّ تقدير وإجلال من قِبَل كل الأحرار في العالم، أتى الجزائري الأخضر الإبراهيمي ليضرب مثلاً في السوء والانحياز إلى جانب مرتكبي المجازر في سوريا وأعوانهم من خارجها. ومن الأَدلَّة على هذا الانحياز؛ وهي كثيرة، أنه لم يشر مَرَّة واحدة في أَيٍّ من تصريحاته المُتعدِّدة إلى ارتكاب النظام السوري جرائم بشعة خلال ستة أشهر كان المحتجون فيها مسالمين. ثم لم يلجأوا إلى استعمال القوة المُسلَّحة دفاعاً عن الأنفس والأهلين إلا بعد يأسهم من قيام العالم؛ عرباً ومسلمين أو غيرهم، بالدفاع عنهم ضد تلك الجرائم المرتكبة بحقهم.
وإنه ليؤسفني أن أقول: إني مقتنع - نتيجة متابعتي لمواقف الزعامات العربية؛ مُمثَّلة في جامعة الدول العربية، أنه لم يعد للعرب أَهمَّية يمكن أن يأخذها الآخرون في الاعتبار.
وما دام الحديث عن سوريا والهَبَّة التي قامت فيها فإني لأدعو بإخلاص عميق للزعماء العرب الذين رموا بثقلهم مخلصين مع تلك الهَبَّة؛ لا سيما وهم يرون أن زعامات عربية ليست معهم؛ بل تَصبُّ مواقفهم في صالح النظام المرتكب للجرائم. وليس أَشدَّ ألماً على النفس من أن يرى عداوة الزعامة الإيرانية مكشوفة ضد أُمَّتنا العربية بعامة وضد دول مجلس التعاون العربية بخاصة ويرى - في الوقت نفسه - دولة من دول المجلس تشترك، قبل أسابيع، في مناورات بحرية مع إيران، التي لا تكفَّ عن التدخل في البحرين، وترفض أن تُحلَّ مسألة وجودها في الجزر الثلاث حَلاًّ سلميًّا وفق القوانين الدولية.
إنه لا يَمرُّ عليَّ يوم واحد ـ مع الأسف الشديد ـ إلا وأرى ما يُعمِّق مشاعر اليأس لَديَّ من فلاح الدول العربية؛ مُمثَّلة في جامعتها. وقبل أربعة أيام اجتمع مُمثلِّوها في القاهرة، وناقشوا تَدخُّل قوات “ حزب الله” في سوريا؛ وبخاصة في القصير. وكانت نتيجة مخاض اجتماعهم ولادة توأم: ذكر وأنثى. أما الذكر فهو “التنديد” بذلك التدخُّل. وأما الأنثى فهي المطالبة بانسحاب القوات غير السورية من أراضي سوريا. ولا أعلم وصفاً يمكن أن ينطبق على من تَمخَّضوا، فولدوا ذلك التوأم. إذا كانت القوى التي لها أَهمِّية عالمية “ طأطأت الرؤوس أمام تَحدِّي إيران والروس” فهل يخطر بالبال أن يلتفت النظام السوري؛ مُعتمداً على القوتين المُتحفِّزتين: إيران والروس، إلى ما وُلِد من مخاض الذين اجتمعوا في القاهرة من مُمثِّلي الدول العربية؟
قد يقول قائل: إن الغرب؛ وعلى رأسه أمريكا، لم يطأطئ الرأس لإرادة إيران وروسيا. وفي قوله ما له من الصحة والوجاهة. ذلك أن موقف أمريكا بالذات مرتبط كُلَّ الارتباط بموقف الكيان الصهيوني. ومن الأَدلَّة على ذلك أن زعماء أمريكا - عند بداية الهَبّة في سوريا - صَرَّحوا بأن النظام السوري فقد شرعيته. لكن بعد شهر، أو شهر وأيام، من قيام تلك الهَبَّة صَرَّح مندوب الكيان الصهيوني في مؤتمر بأوروبا أن ذلك الكيان درس الوضع بدقة، فوجد أنه لا مصلحة له بزوال النظام الحاكم في سوريا. وما دام لا مصلحة له في ذلك، فمن الطبيعي أن يَتغيَّر الموقف الأمريكي من تصريح بفقدان النظام السوري للشرعية، ووجوب زواله، إلى ما وصل إليه من التغيُّر بحيث أصبح يُلِّح على من هم ثائرون ضد ذلك النظام وظلمه وجرائمه أن يجلسوا للتفاوض مع من ارتكبوا بحقهم وحق مواطنيهم أبشع الجرائم.
ومن الواضح أن الصهاينة رأوا أن زوال النظام في سوريا ليس لهم فيه مصلحة. ذلك أنه نظام أبقى الحدود معهم هادئة طوال أكثر من أربعين عاماً هَوَّدوا خلالها ما هَوَّدوا من الأراضي الفلسطينية ـ بما فيها القدس ـ، التي احتلوها عام 1967م، وأن كل يوم يَمرُّ تتضح فيه كوارث التقتيل والتدمير في سوريا أكثر فأكثر. وفي هذا مكاسب جَليَّة لأولئك الصهاينة. وعندما يقتنع هؤلاء أن التقتيل بمختلف الوسائل؛ سواء بالسكاكين والفؤوس أو بقصف المدافع والطائرات والصواريخ، إلى الحَدِّ الذي يصعب أن يختفي أثره البالغ في تعميق البغضاء في نفوس السوريين، وأن التدمير؛ قصفاً بالمدافع والطائرات والصواريخ، قد بلغ ما يُطمئن الصهاينة بأن من الصعب أن تقوم لسوريا بعده قائمة يُخشى منها، فإن الكيان الصهيوني سيبقى أكثر اطمئناناً، سيَّان بقي الأسد ونظامه أو حَلَّ مَحلَّه نظام آخر. وعند ذاك ـ وعند ذاك فقط ـ ربما تَتَّخذ أمريكا موقفاً حازماً تجاه الوضع في سوريا. من الواضح أن أمريكا لا يَهمُّهـا؛ بل ربما يَسرُّها، أن ترى السوريين يُقتَّلون بمختلف الوسائل البشعة حتى الإبادة. لكن يَهمُّها عدم قتلهم بأسلحة كيماوية لأن أثر هذه الأسلحة قد لا يقتصر عليهم؛ بل ربما امتد شيء من تأثيره إلى أراضي الكيان الصهيوني.
حتى الآن - ويفعل الله ما يشاء - يَدلُّ مرور الأيام على أن إيران محكومة بدهاة يختلفون كُلَّ الاختلاف عن كثير من زعماء العرب الذين لا يَتَّصفون بما يَتَّصف به أولئك الدهاة. لا شك أن الزعامة الإيرانية قد فقدت الكثير من الإعجاب والتقدير اللذين نالتهما لدى كثير من الرأي العام العربي عند إطاحتها بنظام الشاه المتحالف مع الكيان الصهيوني، وعند نجاح مُمثِّلها في لبنان - حزب الله -، بالتعاون مع كثير من اللبنانيين، في إرغام قوات الصهاينة على الانسحاب من جنوب لبنان مدحورين عام 2000م. لكن ما قامت به إيران - بعد ذلك - في العراق، التي مَهَّد المُحتلُّ الأمريكي لها الطريق لتهيمن على أموره، ثم ما قامت به - وتقوم - من الوقوف مع النظام السوري المرتكب للجرائم الفظيعة، قد أفقدها ما سبق أن نالته من إعجاب وتقدير لدى الجماهير العربية. على أن الذي يبدو لي أن الزعامة الإيرانية لم تَعُد مهتمَّة بالعرب؛ زعامات أو جماهير. ذلك أنها سائرة في طريقها بثبات؛ مدركة ما يَتَّصف به العرب من ضعف إرادة تدمي قلوب المخلصين لأُمَّتهم.