ظاهرة اكتشاف النفط في المملكه لا يمكن حصر أبعادها الكثيرة من خلال البعد الاستهلاكي السائد، فقد تضخمت في حياتنا اليومية كثير من الأمور السلبية بعد الثروة النفطية، ومنها الفخر الذي لم يكن على ذلك التحدي المطلق (نحن أناسٌ لا توسطَ بيننا، لنا الصدرُ دون العالمين أو القبر)، لكنه كان فخراً في غير محله، وعلى طريقة (إذا افتخرت بآباء لهم كرم،،،، نعم صدقت ولكن بئس ما ولدووا)..
فقد ساهم أجدادنا الأوائل في محاربة تفشي الجهالة بين شعوب الأرض، وساهموا في نشر سماحة الدين الحنيف، والبعد عن الممارسات الكهنوتية التي تجعل من مصالح رجال الدين الخاصة فوق أي اعتبار آخر، كذلك صارع آباؤنا وأجدادنا المتأخرون الفقر واليأس والجفاف، وحفروا الأرض من أجل إخراج المياه من باطنها، وزرعوا الحقول، وعملوا في المزارع نساء ورجالاً، لكن أحفادهم الأواخر؛ اختاروا أن يتوقفوا عن البحث عن الحياة بعد النفط، معتقدين أن ثروة النفط لن تنضب، وأن الله سبحانه منحهم إياها بمثابة الرزق الإلهي لفئة تعتقد بأحقيتها الخالصة بالحقيقة المجردة من المصالح العامة، وأن الله عز وجل سخر لهم هذه الثروة من أجل استقدام البشر من أجل أن يكفونهم عنوة العمل والشقاء اليومي، ليتفرغوا في التنظير للأمم، ولترويج أفكارهم التي لا يمكن أن تُطبق إلا في بيئة يأتيها رزقها بلا عمل أو جهد.
كتبت هذه المقدمة، بعدما قرأت تنديد أكثر من 120 مواطنا، قدموا أنفسهم للمجتمع كعلماء لهم حق الحديث باسم الناس، وكمنظرين للحياة الفاضلة لما بعد النفط في الصحراء العربية، فقد نددوا بإلزام وزارة العمل رجال الأعمال بتوظيف النساء السعوديات بدلاً من الفئات العاملة المستقدمة في محلات بيع المستلزمات النسائية، في حين لم نسمع منهم أي اعتراض في السابق على عمل الخادمات المنزلية أو الممرضات الوافدات، والذين يعملون في بيئة اختلاط لا لبس فية في المستشفيات والمنازل منذ عقود، وهو ما يثبت تأثير الثروة النفطية السلبي على العقول في المجتمع، وفي دوره في خروج عقلية منفصمة عن الواقع.
وإذا كان هؤلاء هم مفكرو المجتمع وعقله المستنير، فقل على مستقبل الأجيال السابقة السلام، فقد انتصر اللاعقل والفخر المزيف وشروط الفضيلة الانتقائية في الوطن، وصارت المصالح الخاصة عند بعض الفئات مقدمة على الضرورات، لا سيما أنهم سيخسرون الكثير عندما يتحول المواطنون إلى منتجين يكسبون قوتهم بعملهم، ولو كانت مواقفهم حقيقة نابعة من حكم الشريعة كما يقولون، فإذن ما هو موقفهم الشرعي من عمل العاملة المنزلية في منازلهم، وما موقفهم من خلوة السائق الأجنبي مع النساء في السيارة، وقبل ذلك ما هو تصورهم العملي الممكن عن البديل عن عمل الطبيبات والممرضات المواطنات والأجنبيات في المستشفيات، وإذا كانت إجازتهم لعمل الوافدات في بيئة الاختلاط تدخل في حكم الضرورات، فما الذي يمنع أن لا يكون أيضا عمل المرأة السعودية في حكمة تلك الضرورات!
ينتمي أغلب الموقعين على البيان إلى التيار الديني المحافظ، ولم يكن هذا البيان هو الأول، بل سبقته حملات منظمة اتسعت مساحتها في شبكتي التواصل الاجتماعي “فيسبوك” و”تويتر”، وليس لدي أي اعتراض علٍى حقهم في التعبير عن آرائهم المتشددة، ولكن لي حق قراءة تلك النزعة الاجتماعية المتناقضة بعد النفط، ولي حق إبداء الرأي ضد ذلك الفكر الذي أصبح يصارع بسيفه الخشبي خياله في ظل المتغيرات الاجتماعية الكبرى، فالمواطن رجل وامرأة، لن يقفا مستسلمين مهما أصدروا من بيانات امام تهديد الحاجة والفقر والعوز، وسيبحث الجميع بمختلف فئاتهم وأجناسهم عن لقمة العيش الشريفة مهما رأت أقلية غير ذلك.
كنت أتمنى أن يطالب هؤلاء بقوانين متشددة ضد التحرش الجنسي، وتطبيق أشد العقوبات على الذين يمارسون المضايقات ضد أي امرأة كانت، سواء كانت سعودية تعمل في السوق، أو عاملة منزلية آسيوية تخدم في المنزل، وكنت أتمنى من هؤلاء قبل ذلك أن يصدروا بيانا ينددون فيها بالممارسات غير الأخلاقية والجنسية مع بعض العاملات المنزلية، لا سيما ما تم تصويره ثم نشره في صورة غير مسبوقة على الشبكة العنكبوتية، ولأنهم لم يفعلوا ذلك، وغضوا النظر عن تلك الممارسة لأسباب لها علاقة بالمصالح الخاصة جداً، فليسمحوا لي أن أقول لهم إن ما يفعلونه بنا قد يراه البعض أشبه بالممارسات الكهنوتية في القرون الوسطى.