من منا نحن بني البشر حين يسافر إلى بلد ما لأي سبب من الأسباب، عملاً كان أو سياحة أو تجارة أو زيارة خاطفة أو للقيام بمهمة خاصة، أو أن رحلته كانت رحلة علاجية عافانا الله جميعاً.. من منا لا يعود وقد حمل معه القليل أو الكثير من الانطباعات والذكريات بل والمشاعر الإيجابية أو السلبية أحياناً.. من منا لم تسيطر عليه إزاء المواقف التي تمر به هنا وهناك في أرض الله الواسعة العديد من الأمنيات.. ويجُري بطريقته الخاصة الكثير من المقارنات التي تدعم أحاسيسه الإنسانية، وتلبي قناعاته الأخلاقية وتحقق محددات رؤاه الوطنية.
إنّ حصيلة جملة الأفكار وحزمة المشاعر والتصورات الناجمة عن مثل هذا النزوع الإنساني، تمثل الرسالة التي يبعثها أي بلد إلى بلدان العالم.
نحن هنا في المملكة العربية السعودية حبانا الله ووهب بلادنا حفظها الله وحرسها من كل سوء، نعماً عدّة تجعلها الأحق بسمو الرسالة التي تبعثها “إسلامياً وحضارياً وإنسانياً” فهي بلاد الحرمين.. وتفخر وتفاخر بقيادتها التي تسطر إضاءات متتالية في تعاملها المحلي والإقليمي والدولي.. كما أنّ سوق العمل بها يجتذب تقريباً جل المهن من الحرف المعمارية والعمالة العادية إلى الخبراء والأكاديميين والكفاءات الشهيرة، وإذ تحترم جميع المهن إلاّ أن نوعية الإدراك، وأساليب الفهم، وطرق التفكير بلا شك تختلف وتتفاوت من شخص لآخر،، وما يمكن أن يحمله البشر من صور ومضامين تتعدّد لا تبعاً لمستويات مداركهم المتباينة فقط، وإنما أيضاً حسب طبائع الأمور وقدرات الإدارات والقطاعات في الأماكن التي يعملون فيها.
وكشاهد على ما أقول وكمثال لمحل الحديث، يستعد أعضاء هيئة التدريس في جامعاتنا السعودية هذه الأيام للسفر إلى بلادهم لقضاء إجازتهم السنوية، ومن المجزوم به أنهم يعودون إلى بيئاتهم المختلفة، وهم يحملون معهم رسائل جديدة وبين حناياهم عواطف مختلفة تكوّنت جراء مواقف متعددة مرت بهم وهم بين ظهرانينا طوال عام جامعي انصرم.
نعم ثمت ثوابت تفيض بدلالات إيجابية في ربوع هذا الوطن المعطاء تنبع من المقدّسات الإسلامية التي حبانا الله جلّ وعلا.. ومن نعمة الأمن والأمان التي تحظى بها بلادنا.. ومن الاستقرار الذي يعبّر عن النموذج الأمثل في ارتباط الشعب بقيادته المبني على الود والحب والإخلاص والوفاء.. ومن أمثلة ونماذج الاقتداء الحسن الذي تعبّر عنه شخصيات وطنية تنتشر في أرض بلادنا المباركة.. ومن مؤسسات تعمل على ضمان الحقوق الإنسانية.. وغيرها كثير من الأمور التي قد يفتقدها البعض في أوطانهم وبين أهليهم وذويهم.. وفي المقابل وحتى نكون موضوعيين فلا عجب ولا استغراب ولا دهشة في أن تكون هناك العديد من الانطباعات السلبية التي تملأ نفوس البعض وتشحن مشاعرهم، وتجعلهم يفكرون ويقارنون بين المؤسسات التي يعملون بها في المملكة ومثيلاتها في بلادهم، وتأتي هذه السلبيات بعيداً عن الأطر والسياسات العامة والأنظمة واللوائح والقوانين، لأنّ هذه الأطر معلومة لهم مسبقاً، وارتضوها، ويتعايشون معها، ويرغبون الاستمرار في العمل رغم مخالفتها لما ألفوه من حال خاصة الغربيين منهم، ولكن ترجمة هذه الأطر إلى معايشات يومية، وإجراءات تراتيبية تختلف بالطبع من جامعة لأخرى، وفي الجامعة الواحدة باختلاف المسئول، وهذا بالطبع له أبعاده وآثاره الحالية والمستقبلية على سمعة هذه الكيانات التنموية في ظل سوق تنافسية عريضة، ولذا يمكن القول هنا إنّ في الجامعات تحديداً تكون انعكاسات هذه الأمور التي قد يعدها البعض هينة بسيطة أكثر حدة وأشد خطورة لا لشيء إلا لأنها تنعكس على تعليم أبنائنا، وتفكير شبابنا ومستقبل أجيالنا، والمقياس -كما هو معلوم - مختلف إذ إنّ المؤسسة المعمارية تقيم بعدد الطوابق وجودة العمل وخطة الإنجاز المتفق عليها، وفي رصف الطرق تستطيع بالعين المجرّدة أن تقيم ما أنجزت في يوم أو شهر أو سنة وبمجرّد مرورك بسيارتك على الطريق تتلمّس جودة العمل من عدمها .. وفي المزرعة وببساطة متناهية تقدر المحصول وتحسب المكسب والخسارة.. وحتى في المستشفى أو المستوصف الطبي تدرك في أيام وربما ساعات مدى التحسن الملحوظ الذي يطرأ على المريض.
نعم في كل الأمثلة السابقة يكون الانضباط وآلياته معروفة في الحضور وملاحظة العمل وأساليب قياس نتائجه؟ أما في حصون الفكر، ومعاقل العلم، ومنابر الفهم ومصانع العقول فكيف يقيم الأداء؟؟!! وكيف نراقب العمل؟ كيف نضمن الجودة والإتقان داخل قاعة درس أو سكشن عملي أو تدريب مهاري، أو معمل أو مختبر، فمؤشرات درجات الطالب قد تكون خداعة وغير دقيقة لأنّ الهدف أكبر في بناء الشخصية، وإن كانت المراقبة منصبة على الالتزام الشكلي، فماذا عن الإبداع العلمي والفني والتربوي الذي يبني مواهب طلابنا، ويحببهم في العلم ودراسته.
موجز القول هنا إنّ التكوين الحقيقي بعيداً عن تلقين المناهج الخفية لن يتأتى ما لم يكن أعضاء الهيئة التدريسية مختارين بعناية توفر للجيل القادم ولأولياء أمورهم ولقيادتنا الحكيمة الثقة،، وفي ذات الوقت يتوفر للمستقطبين من أجل التدريس والبحث في جامعاتنا المناخ الإيجابي للعمل وتُشحذ الهمم وتسهل لهم الأمور فيما يحقق الهدف الحقيقي من وجودهم بيننا، ويوفر في بيئة جامعاتنا الداخلية ضمان الإبداع والتفوق والإتقان، دمتم بخير وإلى لقاء والسلام.