استنفار كبير في واشنطون، ليس استنفاراً حكومياً أمريكياً، بل استنفار سعودي على مستوى التعليم العالي، والسفارة السعودية، فالوزارة والملحقية تنظمان فعالية ضخمة حتى على مستوى أمريكا ذاتها، الهدف منها هو تسهيل مهمة استقطاب الخريجين لسوق العمل.
الفعالية أخذت شكل الاحتفال بالخريجين الذين تم تخرجهم هذا العام فقط من جامعات الولايات الأمريكية وعددهم سبعة آلاف ومئتا طالب، أي ما يوزاي عدد طلاب جامعة من الحجم المتوسط. فالفعالية كما يقال تضرب عصفورين بحجر واحد تحتفل بخريجيها وتساعدهم على الحصول الفوري على وظيفة.. ويلاحظ المشارك تواجد أعداد كبيرة من الشبان والفتيات والعائلات التي تمت رعايتهم طيلة فترة دراستهم وآن الأوان ليعودوا للوطن.
المناسبة التي حرص معالي وزير التعليم العالي على تشريفها شخصياً، وكلك معالي سفير المملكة في واشنطون الأستاذ عادل الجبير، أشرف على تفاصيل تنظيمها سعادة الملحق الثقافي في واشنطون الأستاذ محمد العيسي، حيث نظمت على مستوى عالٍ جداً لائق بالمملكة، ولائق بفرحة الطلاب الخريجين. وقد تساءل البعض عن كلفة هذه التظاهرة الضخمة من أيواء للطلاب وإيفاد، وإعاشة لهذا العدد الكبير، وكذلك توفير أحد أفضل مراكز المؤتمرات للمناسبة، ليتضح لاحقاً أن الملحقية نجحت في تنظيم هذه الاحتفال المهني بمشاركة الجهات الكثيرة العامة والخاصة المهتمة باستقطاب وتوظيف الخريجين، وهو جهد تنظيمي رائع يحسب لها، فتقاسم الجهد كثير من قطاعات المجتمع.
وقد أسهب معالي وزير التعليم العالي خلال اللقاء الصحفي الذي عقد في السفارة السعودية في واشنطن في شرح برنامج الملك عبدالله لتطوير التعليم في المملكة نوعاً وكماً، في الداخل والخارج، وهو برنامج لا يشمل التوسع في الابتعاث للخارج فقط، بل التوسع في التعليم العالي في داخل المملكة أيضاً، وأظهرت الأرقام الكبيرة التي ذكرها معاليه بجلاء أن الوزارة في سباق مع الزمن، وأنها تريد أن تحقق الكثير في الوقت القليل.. معاليه شرح، وهذا كلام أيضاً قد لا يعرفه البعض، إن الخطة تقضي بتطوير التعليم بشكل متوازٍ من حيث الكم والكيف. وهذا يشمل زيادة عدد الجامعات لتعم كافة مناطق المملكة مع رفع مستوى التعليم في الجامعات الموجودة حالياً من خلال الاعتماد الأكاديمي.
وقد أوضح معاليه أن الوزارة فضلت فتح عدد كبير من الجامعات في مناطق مختلفة لإتاحة فرصة التعلم للشباب حتى ولو لم تكتمل جميع مرافقها، ووعد بأن جميع الجامعات سيكون لها مدن جامعية متكاملة في الأعوام القليلة المقبلة، كما أوضح بأنه من ضمن خطط الوزارة إنشاء مستشفيات جامعية في جميع الجامعات التي تتوفر فيها كليات طبية. وأسبق معاليه بتساؤل البعض عن القوى البشرية التي تشغل هذا الجامعات بالقول بأن عدد المعيدين المبتعثين اليوم للدراسات العليا وهو عدد يتجاوز الأثني عشر ألف، ويعادل مجمل الطلاب المبتعثين كاملاً قبل عقدين من الزمن. كما أن هناك خمسة آلاف معيد ومعيدة سيلتحقون بزملائهم لاحقاً، وسيستمر باب للابتعاث للدراسات العليا لسنوات مقبلة.
وحسب الإحصائيات التي سمعتها من الوزير هناك ما يزيد عن مئة وأربعين ألف مبتعث في أربعة وعشرين بلداً، أي ما يوزازي عدد سكان بلدة متوسطة الحجم. تخرج منهم أربعون ألف طالب يضاف لهم سبعة آلاف من أمريكا وحدها هذا العام. وقد أوضح معالي الوزير وأيده في ذلك معالي السفير أن الهدف الأول من الابتعاث هو إتاحة الفرصة لجميع شباب المملكة للحصول على تعليم عال، وذلك بتوجيه ومتابعة مستمرة ودقيقة من خادم الحرمين الشريفين، -أطال الله في عمره-، فقد أمر بتذليل كافة الصعوبات وتسخير جميع الإمكانات لإتاحة الفرصة للجميع للتعلم، قناعة منه بضرورة تطوير الثروة البشرية في المملكة التي تعد أهم من الثروات الأخرى الناضبة والمستهلكة. فالمملكة وهي عضو رئيس في مجموعة العشرين الاقتصادية، لابد ولأن تكون كذلك في الثروة البشرية أيضاً.
أعتقد دائماً، أن المملكة تتطور وتتغير بشكل متسارع يستعصي رصده حتى على وسائل الإعلام الحديثة، وهي تتغير على مستوى محوري ومفصلي، وهو مستوى القوى الشابة العاملة والواعدة التي تشكل النسبة الأكبر من السكان اليوم، وهذا سيضمن بإذن الله استمرار تطور المملكة في النمو والتطور لأجيال قادمة. وأحتفظت بفكرة كانت تدور في خلدي لهذا المقال، غير أن معاليه استبقني بذكرها، وهي أن الأمل لا يقتصر على إيجاد وظائف للخريجين، ولكن أن يخلق الخريجون أنفسهم وظائف وأعمالاً لغيرهم. فهم تعلموا في مجتمع عرفت عنه روح الابتكار والمبادرة، و الأمل أن يتعلم الطلاب ذلك من محيطهم إضافة لتحصيلهم الأكاديمي. وبما أن الشيء بالشيء يذكر فقد ذكر معالي السفير أن ابتعاث ما يقارب المئة وخمسين ألف شاب لأكثر من خمس وعشرين دولة من أكثر الدول تقدماً هدف أيضاً لتعميق معرفة المملكة بهذه البلدان التي ستكون شريكة للمملكة في المستقبل على مستوى التبادل التجاري والثقافي، وكذلك تعريف هذه الدول بثقافة المملكة من خلال شبابها. فيوجد في أفضل جامعات بلدان مثل الصين، وكوريا، والهند طلاب سعوديون يدرسون فيها ويعرفون بالمملكة من خلال الاختلاط بشبابها ومجتمعها.
ويجمع الكثير من الخبراء على أن البعثات الجريئة التي وجه بها الملك فهد -رحمه الله- عند توليه مسؤولية إدارة المللكة في وسط السبعينات، كانت عاملاً رئيساً في النقلة النوعية التي شهدها المجتمع السعودي فيما بعد، فقد أمدت المجتمع بطبقة من الخبراء والتيكنوقراط الذين يتولون المسؤوليات اليوم، ومنهم للمعلومية، معالي الوزير، ومعالي السفير، وسعادة الملحق الثقافي وكافة المسؤولين الذين يديرون اليوم هذه المشروعات التعليمية الضخمة بكل كفاءة، فقد كنا قبل ذلك نستورد خبراء عرب أو أجانب ليقومون بذلك، واليوم يأتي الخبراء ليرصدوا ما ننجزه أو يعملون في مؤسسات المملكة للاستفادة من خبرتها فقط. ولا يجادل أحد في أن بناء الأمة لا يكون إلا ببناء عقول شبابها.
وزارة التعليم العالي بكافة مؤسساتها رمت الكرة اليوم بقوة في ساحة ملعب سوق العمل، تريدون شباباً مؤهلاً يتكلم لغات؟.. هاقد أتيناكم بشباب متخرج من أفضل جامعات العالم ينطقون بألسن نصف الكرة الأرضية. والأذكياء من مديري العالم تلقفوا الرسالة قبل غيرهم ولذلك استبقوا غيرهم في المشاركة في يوم المهنة وتسابقوا لاستقطاب شبابنا المتميزين. والملفت للإنتباه أن الجامعات الكبرى في المملكة، جامعات بحجم جامعة الملك سعود حرصت على تصيد واستقطاب الشباب المتميز لإعادة ابتعاثه للدراسات العليا. ويمكن القول باختصار بأن الجانب الأكثر مهنية ونشاطاً في مجتمعنا كان حاضراً بقوة هنا.
بقيت كلمة واحدة، وهي أننا نتمنى من مقام خادم الحرمين الشريفين أن يعلن عن برنامج متوازٍ لبرنامجه للابتعاث يكون للتوظيف، وأن يتم توجيه جميع المشروعات الكبرى في المملكة للإستفادة من هذه الطاقات المتدفقة، فهم وليس غيرهم من الوافدين الأقدر على بناء وطنهم، فقط يجدر بنا تغيير نظام العطاءات الحكومية القديم الذي يبحث عن العطاء الأقل، بنظام جديد يركز على العطاء الأجدر وهو حتماً ذلك الذي يوظف الشباب السعودي ويوفر لهم مجال الحصول على الخبرة اللازمة، وأن يتم إنشاء شركات كبيرة شبه حكومية، إنشائية، وخدماتية، وتصنيعية تنهض بالوطن بسواعد شبابه وتكفل لهم العيش الكريم.. فليس لدى الكاتب أدنى شك بأن أعيناً كثيرة من الدول المجاورة تركز على استقطاب هذه الجيل الواعد الذي صرفت المملكة عليه الكثير ليس فقط من المال بل من الرعاية والجهد، ولو حصل مثل ذلك فسيكون الخسارة الأكبر للوطن. مرة أخرى لا يسعنا إلا نرفع أكفنا بالدعاء لخادم الحرمين الشريفين على رعاية الكريمة لمستقبل شباب المملكة ونشكر جميعاً القائمين عليه بدءاً بالوزير والملاحق الثقافيين وانتهاء بأصغر موظفي الوزارات والملاحق الثقافية والوزارات، فما شاهدناه هنا يسر النظر ويبهج القلب.
latifmohammed@hotmail.comTwitter @drmalabdullatif- أستاذ في جامعة الملك سعود