المرحلة الأخيرة في تعامل المجتمع المحافظ مع أي خطوة تجديدية خارجة عن السياق المألوف هي مرحلة القبول الصامت، يليها استلام التيار المحرض على الرفض (سابقاً) إدارة التجديد والإشراف عليه ونسيان كل ما قيل قبل ذلك من مواعظ وتبريرات الرفض.
المتوقّع بداهة أن السلطات التنفيذية (الحكومة) تكون دائماً على علم بالنهايات السعيدة المتأخرة جداً، لكنها تتصبر في استعمال قدراتها الإقناعية، حتى ولو كان صبرها الطويل يؤدي إلى تضييع الوقت الثمين على حساب المستقبل، وإلى الإضرار بسمعة الدولة أمام المنظمات الدولية لشؤون التعاون البيني بين الأمم. عدم البت السريع والحاسم في أمور سبق تطبيقها في دول إسلامية محترمة كثيرة منذ زمن بعيد، يضع المسوف والمؤجل في موقف المتردد الهائب. مثل هذه المواقف قد توسوس لدول ومنظمات معادية بوجود نقاط ضعف وبإمكانية الابتزاز من خلال التسلّل وتأجيج التحزّبات الاجتماعية.
إذاً الفرق النوعي عند التعامل مع التطوير والتجديد يقع في سرعة الحسم، لأن ذلك هو ما يوفر المصداقية وإزالة ملابسات الاشتباه الشرعي وإبراء الذمة الوطنية.
هناك بالتأكيد فرق وطني نوعي بين من يتقبل النقلة التطويرية طوعاً، وبين من يقبل بها متأخراً كأمر واقع، مع نيّة الالتفاف عليها وتأطير الاستفادة منها في أضيق الحدود.
للتدليل على تشابه المسارات البشرية تجاه التطوير تكفي الإشارة إلى معاناة المجدّدين في نهايات عصور الظلام الغربية وبدايات عصور النهضة قبل أربعة قرون فقط. علماء في الفلك والفيزياء والكيمياء والفلسفة والطب والوراثة وتطور الأجناس تعرضوا للتعذيب وكفروا، وبعضهم أحرق على النار وصودرت أملاكهم، ولكن وبعد مئة عام فقط صارت تماثيلهم تنصب في ميادين الحواضر الغربية كآباء وأبطال مؤسسين للنهضة العلمية الحديثة ضد الجهل والجوع والأوبئة.
هل يتذكّر أحد اليوم اسم البابا الذي استتاب جاليليو وهدَّده بالحرق بالنار؟ لا أعتقد ذلك بينما يتذكّر الجميع العالم جاليليو كأحد رواد العلم والتقدم البشري.
هنا في وطننا العزيز الغالي لدينا ما يكفي من الأمثلة على تكرر نفس مراحل الرفض للتجديد بنهاياتها المتوقعة. الملك المؤسس عبدالعزيز - طيَّب الله ثراه- دخل في معارك حقيقية مع العقول التي كفَّرت التعامل الدبلوماسي والاقتصادي مع الأجانب وجها ً لوجه على أرض الجزيرة العربية، واستنكرت الاستفادة من رسوم الجمارك لصالح ميزانية الدولة، ووقفت ضد استعمال المواصلات البرقية واللا سلكية لأنها من البدع.
تأملوا وتذكَّروا فقط ما جرى في البدايات لتعليم البنات والتعليم المهني والصناعي لأنه يعلِّم المهن والحرف الوضيعة لأبناء الأحساب والأنساب، وتذكَّروا البث الإذاعي والتلفزيوني والانتشار الفضائي لاحقاً، وخدمات الهاتف الجوال وكل تلك الأشياء التي أصبحت لاحقاً لا غنى عنها للجميع.
بعد تأخير عبثي وفاقد زمني لا لزوم له فرضت الخطوات التجديدية نفسها ولم نر أحداً من الرافضين لها في البدايات تعفَّف عن المشاركة فيها في النهايات.
المتوقع، بل ومن المؤكّد أن نفس المراحل ونفس المواقف سوف تتكرر مع كل محاولة تطوير وتجديد. محاولات التخلص من خلوة المرأة في الزمان والمكان بالسائق الأجنبي والبائع الذكر، لإغناء المرأة وإعفافها بالكسب الشريف من خلال العمل في المجالات الإنتاجية المفتوحة، هذه مجرد أمثله قليلة على ما سوف يمر بنفس المراحل ولكن يفرض نفسه لاحقاً.
بما أن الأمور تُؤخذ بخواتيمها، فإن الحسم السريع أفضل من إهدار الوقت في المماحكات المعروفة نتائجها مسبقاً.