كان موقفاً غريباً بالنسبة لي، حين جلست امرأة بجانبي في إحدى أسواق دبي، بدت وكأنها قادمة من الصحراء، بشرتها التي صُبغت بسمرة صحاري نجد، لهجتها الممزوجة باللكنة البدوية، هيئتها التي تشبه بساطة وحشمة الفتاة الصحراوية، تبادلنا أطراف الحديث، وبعد وهلة جاءت فتاة بدت لي وكأنها أتت تواً من أمريكا، كانت ترتدي سروالاً قصيراً وتحمل في يدها آي - فون وفي يدها الأخرى بلاك بيري، وفي أذنيها سماعات علا منها صوت موسيقى الراب، وحين ارتسمت على ملامحي علامة استفهام حول هويتها باغتتني المرأة البدوية قائلة: أعرفك على بنتي “فلانة” فأجابت هي فوراً: هااي! لم استطع إخفاء تعجُّبي من غرابة المعلومة! فالتناقض بينهما يبدو صارخاً، وكأنّ كل واحدة منهن جاءت من ثقافة وبلد مختلف لا يعرف عن الآخر شيئاً..
أضافت الأم بنبرة تفيض زهواً وفخراً: بنتي دارسة في مدارس أجنبية، التفت على ابنتها وسألتها بالعربية عن تجربتها الدراسية، فأجابت بالإنجليزية الممزوجة ببعض الكلمات العربية الركيكة : Its amazing! أي تجربتي مذهلة! ودّعتهم بعد ذلك ووقع الموقف لم يغادرني.. تساءلت ما الذي يجعل فتاة بدوية بدت من عباراتها أنها تحمل فخرا ًبقبيلتها وأرضها أن تحرص على صنع ابنة لا تشبهها ولا تشبه هويتها وقيم صحرائها؟ أهو رغبة منها في التعويض في ابنتها بما لم تستطع إدراكه يوماً؟ أم اعتقاداً منها أنها بذلك تؤسس فتاة متحضرة متعلمة لتستشرف فرصاً أفضل في المستقبل؟ حقيقة، لا أعرف، ولكن ما أعرفه جيداً أنّ هناك جيلاً عربياً قادماً لا يتحدث العربية ولا يفهمها، بمباركة الآباء والأمهات الذين يحرص بعضهم على تعليم أبنائه في مدارس أجنبية تُدرس العربية على استحياء ما أنتج جيلاً يستحقر لغته، ويتبرّأ من هويته، وينظر بدونيّة لكل من لا يشبهه.
فقد صادفت شخصياً خلال فترة دراستي في دبي فتيات “خليجيات” يستنجدن بي لأعلّمهن كيف يقرأن ويكتبن بالعربية، بعد أن كبرن وأدركن أنّ لغتهنّ هي هويتهن وأنها لغة دينهن وقرآنهن، حيث إنّ الآباء وبحسن نية خرطوهن في التعليم الأجنبي، ظناً منهم أنهم سينتجون أبناءً متحضّرين، فأدركوا لاحقاً أنهم صنعوا أبناءً تائهين ضائعين يخجلون من هويتهم ولا يملكون هوية غيرهم، فأصبحوا كالغربان التي أرادت تقليد مشية العصفور، فلا هي التي مشت كالعصافير ولا هي التي عادت تمشي كالغربان!
لست ضد التعليم بالإنجليزية بل إنني أؤيده بشدة، كونه لغة العصر والتطوّر والتكنولوجيا التي يحتاجها سوق العمل كمطلب أساسي، ولكني ضد ظاهرة ذلك الجيل المنهزم معنوياً ذو اللغة الركيكة والتعبير المتواضع والفصاحة المفقودة، لا يستطيع أن يكتب نصاً ولا يلقي خطبة ولا يقنع عربياً ولا حتى أجنبياً بأيّ موضوع، نظراً لشح مفرداته ورداءة تعبيره وضعف ثقته بنفسه واعتزازه بأصله وهويته.
أخيراً.. يُذكر أنه في القرون الوسطى وقف قسيس إيطالي في أحد ميادين مدينة إيطالية ليخطب قائلاً: “إنه لمن المؤسف حقاً أن نرى شبابنا (النصارى) وقد أخذوا يقلدون المسلمين العرب في لباسهم وأسلوب حياتهم وأفكارهم، بل إنه حتى الشاب إذا أراد أن يفاخر أمام عشيقته يقول لها: “أحبك” بالعربية ليعلمها كم هو متطور وحضاري؛ لأنه يتحدث العربية”، فشتان بين الأمس واليوم!.
نبض الضمير:
ولتستعد لغة الضّاد التي دعيت
أمّ اللغات شبـاباً برده قشبُ
إن لم نكن كلنا في أصلنا عربا
فنحن تحت لوائها كلنا عرب
Twitter:@lubnaalkhamis