وأنا أقرأ الصفحة الأخيرة في إحدى صحفنا المحلية لفت انتباهي ما خطته ريشة رسام الكاريكاتير بالصحيفة عن مفارقات السياحة بين الداخل والخارج؛ إذ جاء الرسم معبراً عن تباين الاستقبال هنا وهناك حسب التعليق على الرسم الذي جاء متحاملاً على السياحة الداخلية، وهو ما سوف أرد عليه في ثنايا الموضوع. وكنت قبل ذلك قد أعددت للنشر بعض الأفكار والرؤى المتناثرة حول القصور أو الفتور الحاصل في الدعاية للسياحة الداخلية مقارنة وقياساً بالفيض الزاخر المحفز للسياحة الخارجية، آخرها مسلسل الجداول والبرامج المعلنة - وهو ما يسمى بالجروبات - عن الترويج للفنادق والمنتجعات في قارات العالم التي تمتلئ بها بعض صحفنا ومجلاتنا المحلية كعادتها كل صيف موضحاً فيها الأسعار والمميزات المختلفة، وهذه الجداول والبرامج لنا معها مواقف وذكريات محفوفة بوسائل التمويه والخداع المألوفة، وأهدافها وأسلوبها شنشنة نعرفها من أخزم كما جاء في المثل، وقد عانى منها الكثير، وكتبوا عنها، خاصة من وقعوا صيداً سهلاً في مزالقها وفريسة لألغامها الخفية، ولاقوا من تبعاتها الأمرين (الابتزاز والاستخفاف).
وما لنا أن نلقي العتب واللوم على الآخرين ونحن نرى بالكلمة والصورة بعض صحفنا ومجلاتنا تطفح بفيض الدعاية المتواصل، وتلبس على أفكار المواطنين والمقيمين هنا بإغراءات للسفر، تدغدغ بها مشاعرهم لقاء حفنة من الريالات تنقط في خزينتها أو لقاء دعوات خاصة ومميزات ترفيهية وحسومات ملحوظة في قيمة التذاكر للرحلات الخارجية، يختص بها بعض المحررين وكتّاب الأعمدة والزوايا وبعض المسؤولين الذي يجيزون ويباركون أهداف ومطامع شركات السفر والسياحة التي تديرها العمالة الوافدة. وفي الجانب الآخر فقد شعرت بالمرارة الحقة والامتعاض وأنا أتصفح مجلة ظهرت منذ مدة بصورة شبه فصلية، صدر منها حتى الآن أعداد عدة، تصلني على صندوق بريدي مجاناً. هذه المجلة تُعنى بالسياحة والبيئة، ومحسوبة في إصدارها وتموينها على أحد القطاعات المعنية بتطوير السياحة في بلادنا. وعندما تصفحت هذه المجلة المصورة رأيت العجب العجال؛ فجل محتواها استطلاعات عن مواضع وأماكن سياحية خارج الوطن عدا نتفات بسيطة للتمويه والتضليل والاسترضاء في نطاق المقابلات الشخصية الروتينية. أما فروعها الرئيسية الفاعلة فهي خارج المملكة. أما مكتبها الرئيس الصوري فهو وحده يقبع في إحدى الشقق المتواضعة في حي منزوٍ في إحدى مدننا الكبرى، ولا تجد فيه غالباً سوى حارس المكتب الوافد للرد على الهاتف. أما المسؤولون عن التحرير فهم - كما أتخيل أو أتوقع - يتناوبون السفر للخارج، ربما للسياحة أو لحضور المؤتمرات السياحية، أو أخذ دورات ميدانية أو استطلاعات لمجلتهم للنهوض بها مستقبلاً نظراً لقلة الإقبال عليها وتواضع مستواها؛ الأمر الذي جعل القائمين على شؤون إدارتها وتحريرها أول من يحجم عن الكتابة فيها، وجعل الفائض من الرجيع يوزَّع مجاناً. وهنا أعود إلى مغزى الكاريكاتير الآنف الذكر فأقول إن مدلوله ليس صحيحاً؛ ففي الخارج لا يستقبلونك بالورود والرياحين وإنما شعارهم الحقيقي امتصاصك مادياً من الوريد إلى الوريد بالوسائل والطرق والأحابيل كافة، وفي مقدمتها الأسعار المضاعفة؛ إذ تبدأ المعاناة بقيمة تذاكر السفر الباهظة الثمن إلى هناك وبالعكس، ومن ثم أسعار الفنادق وقوائم الطعام ورسوم الخدمة المضاعفة وغيرها.. وقد لمست ذلك شخصياً، وأخذت الدرس، واكتويت بلهيب الفروقات بمجرد معرفتهم بالبلد الذي أنتمي إليه؛ فقد صحبتُ عائلتي في رحلة سياحية لبلد أوروبي قبل خمس سنوات تقريباً، أفراد العائلة خمسة أشخص، اثنان منهم لا يتجاوزان العاشرة من العمر، وكانت رحلتنا السياحية في حدود أربعة أسابيع، ومصاريفنا مضغوطة في الحد الأدنى، ولكن بسبب الجشع والابتزاز والتربص الذي لاقيناه في كل مكان، وبالأخص وسائل النقل وأمثالها، فاقت مصاريفنا أكثر مما هو متوقع بكثير، بل تجاوزت الضعف، ولكن فيما بعد - وعلى عكس ذلك وبعد أخذ الدرس والعبرة - خططتُ لرحلة داخلية قبل ثلاثة أعوام لمدة شهر، سافرتُ خلالها مع أفراد عائلتي إلى المصائف المشهورة، وبعدها إلى الأماكن المقدسة في مكة والمدينة.
بداية سافرنا جميعاً بالطائرة بعد أن شحنا سيارتنا إلى هناك، وكنا خلال إقامتنا وتنقلاتنا نسكن في شقق مفروشة مستكملة التأثيث والنظافة، وخدمات لا تضاهى، ومع المصاريف المختلفة الأخرى كافة لم تتجاوز تكاليف الرحلة كلها ما يعادل نصف الرحلة الخارجية السابقة. وفي هذه الرحلة الممتعة داخل أرجاء الوطن جمعنا الحسنيَيْن: معرفة مصائف البلد وراحة الأهل والولد بلا نصب ولا نكد؛ فالأجواء هنا مألوفة، والمصاريف معقولة، والطمأنينة تحفُّ بنا من كل جانب في الحل والترحال، نؤدي صلواتنا في أوقاتها المعروفة، ونجد وجوهاً تقابلك بالبشر والحفاوة. أما أصحاب البطر من هواة وشداة السفر السنوي للخارج بدواعي التقليد والمباهاة والتنافس فيجب ألا نكون عوناً لهم أو مشجعين لهم، وذلك بأن نترك لصحافتنا الحرية المطلقة للترويج لمجالات السياحة في الخارج؛ وبالتالي نستدرج عشاق السياحة الداخلية لمجاراتهم عن طريق الإغراءات الخادعة والدعايات المضللة للسياحة هناك، التي يشد الرحال لها سنوياً من بلادنا بسبب هذه الدعايات المحمومة أكثر من ستة ملايين مواطن، تنزف من دخلنا القومي ورصيد أجيالنا أكثر من ستين ألف مليون ريال سنوياً على الأقل. ومع إيماننا بسلبيات السياحة الخارجية التي لا يستطيع هذا الحيز المحدود حصرها فإن هذا لا يجعلنا نتردد أو نجامل أو نغالط أنفسنا، وذلك بأن نعلنها صراحة بأن السياحة الداخلية مع فائدتها ومردودها المادي والنفسي فهي لا تجد - مع الأسف - من يحميها من المتربصين بها والمتحاملين عليها والمضيقين الخناق حولها ومن يحاولون كتم أنفاسها، خاصة من تلك الفئة المتزمتة المتحجرة التي لا تؤمن بشيء اسمه سياحة فيما يتعلق بالترفيه والترويح وجمع شمل الأسرة مع بعضها؛ فهذه الفئة التي نعنيها ولمسنا وجودها في الداخل تحاول جاهدة ومستميتة إلى درجة التشنج التفريق بين المرء وزوجه وأولاده في الكثير من المراكز الترفيهية والمهرجانات المختلفة، حتى صحبة الأم أولادها ممن يتجاوزون العاشرة تُعتبر في نظر هذه الشرذمة من الأمور الممنوعة، كما لمست ذلك بنفسي أثناء مهرجانات عدة وفي المعارض التسويقية أو حتى عند زيارة إحدى حدائق الحيوانات.. وهذه - وأمثالها كثير - تُعتبر من سلبيات ومعوقات السياحة الداخلية؛ إذ تقف حجر عثرة أمام جمع شمل العائلة، وتنظيم برنامجها السياحي اليومي بحرية بسبب الشكوك والأوهام وسوء الظنون المسبقة المنفرة. علماً بأن الرجلبجانب عائلته سيكون حريصاً وغيوراً ومصدر سعادة وراحة وحماية لها. ومن المعروف والمألوف أن السياحة الناجحة هي التي تجمع الأسرة مع بعضها ولا تفرقها.
لذا لا يسعنا إلا أن نناشد المسؤولين الالتفات جدياً لمعوقات السياحة الداخلية، وفي مقدمتها سعودة مكاتب السفر والسياحة التي تهيمن عليها وتديرها العمالة الوافدة، وتستنزفها، وترحل مردودها، ولا تعترف بشيء اسمه سياحة داخلية، كما يجب استقطاب الشباب المتحمس وطلاب الجامعات صيفاً للعمل في القطاع السياحي، وتشجيع المهرجانات السياحية، وتطوير فعالياتها وبرامجها في مدن وقرى المملكة كافة.
abo.bassam@windows live.comالرياض- كاتب صحفي ومدير عام تعليم سابق