|
سهيلة طيبي:
يُقال في كثير من الأحيان الحاجة أمّ الاختراع، والأزمة الاقتصادية في إيطاليا، في ضغطها على المهاجرين، ولَّدت العديد من أشكال التحايل على الأوضاع الصعبة، وكذلك دفعت إلى سُبل متنوعة للتخفيف من وطأة آثار الأزمة. متابعة لهذه الأوضاع المستجدة رصدنا أحوال بعض المهاجرين الذين ألحقت بهم الأزمة الاقتصادية ضرراً، وجعلتهم يفقدون مناصب شغلهم، حتى ارتفعت نسب البطالة بينهم إلى مستويات لافتة، بعد أن كانوا يشكلون مورداً مهماً للدخل الإجمالي للدولة الإيطالية.
فقد أدت هذه الأوضاع الجديدة بكثير من المهاجرين، بسبب البطالة، إلى التفكير في إيجاد بدائل تمكنهم من اكتساب أرزاقهم والبحث عن مخرج يقيهم سؤال الحاجة، في المأكل والملبس والمسكن. أعددنا في الغرض استجواباً مع مجموعة من المهاجرين، سألناهم عن سبل تأقلمهم مع أوضاعهم الجديدة المتأثرة بضغط الأزمة.
السيد «س» جزائري كان يشتغل في محل لغسل الألبسة لدى سيدة إيطالية، ومع تفاقم الأزمة وزيادة الديون على ربة العمل وجدت نفسها مرغمة على إقفال المحل، كما يروي لنا المهاجر المتضرر، الذي لم يتمكن من العثور على عمل بديل إلى أن راودته فكرة، بسبب تردده المستمر على «ساحة إسبانيا» الشهيرة بالعاصمة روما، وهي الساحة التي يرتادها السياح. ويضيف «س»: لاحظت كثيراً من الإيطاليين الذين يكسبون عيشهم من العمل موسيقيين متجولين أو راقصين أو بهلوانيين, من هنا راودتني فكرة أن أكون مهرّجاً، أتردد على الساحات العمومية التي تعج بالسياح الوافدين من كل أقطار العالم، وبما أن هذا العمل يقتضي المناوبة مع آخرين، فإني لا أنام سوى أربع ساعات في اليوم، حتى يتوافر لي حيز من الوقت ومجال في الساحة مع رفاقي في الصنعة، فهم أغلبهم مثلي، منهم من فقد عمله ومنهم من لم يجد سبيلاً آخر للحصول على لقمة العيش.
رحنا نواصل جولتنا فاستوقفتنا في «ساحة بولونيا» الشابة «هـ» وهي من أصول ليبية تونسية، أخبرتنا بأنها اضطرت للعمل هنا رسّامة، وساعدها في ذلك بعض الأشخاص. وتقول: كنت أعمل خادمة في منزل لدى عجوز، إلا أن ظروف تلك المرأة لا تسمح لها بدفع الأجر لي كاملاً، وكنت أسكن معها، وشاهدت بنفسي عدم تمكنها من دفع فاتورة الكهرباء والغاز بسبب زيادة التسعيرة وارتفاع الضرائب التي تضاعفت, ومعاشها الضعيف، من جراء قانون التقشف المالي لسنة 2012؛ فلم يكن أمامي إلا أن أواجه قدري وأحتمي بعائلة أخرى طيبة، أساعدهم في بعض الأشغال المنزلية في الأيام الشتوية؛ إذ لا نعمل في الساحات العامة, وفي الوقت نفسه أدفع لها مبلغاً زهيداً على قدر ما أربحه من أعمالي في الرسم, لأخفف عنهم مصاريف البيت.
أما السيدة «ص» المصرية، المعروفة ببائعة الخبز، فقد رحل زوجها من إيطاليا نتيجة ضغط الأزمة، وذهب إلى سويسرا للبحث عن شغل، بعدما أغلق محل البيتزا الذي كان يشتغل فيه بإحدى الضواحي الشعبية في روما. استطاعت هذه المرأة المكابدة العمل بإعداد «الخبز العربي» الذي تهيئه ليلاً، وتتولى بيعه نهاراً عبر الطواف بأرجاء روما كافة، وتوزيعه على محال الأجانب والعرب خصوصاً؛ لتحصل على بعض اليوروات. وتذكر أن أصحاب المحال الإيطالية غالباً ما يرفضون شراء الأرغفة منها خشية أن تكون ملوثة أو غير صالحة للأكل، وخصوصاً أنها لا تملك ترخيصاً في ذلك، ولا تتوافر في صناعتها الشروط الصحية اللازمة. كما تقول إنها تقوم بمساعدة زوجها الغائب الباحث عن لقمة عيش وهو شريد في بلد آخر، وهي لا تبالي في روما أن تتجول بقفّتها وهي تجرها على حمالة مجرورة من شارع إلى آخر ومن حي إلى غيره، حتى بات كثيرون يلقبونها بالخبّازة المتجوّلة، وغدت معروفة في أوساط العرب والإيطاليين.
أما «ر» التونسي فمن لا يعرفه يحسبه من بقايا الهنود الحمر القادمين من القارة الأمريكية. أخبرنا بأنه يمتهن فن الرقص على طريقة الهنود بفضل توصيات صديقه الإكوادوري. وبعد أن تعذر عليه إيجاد عمل جديد في ظل الأزمة الاقتصادية، بعد أن كان يشتغل في أحد المطاعم الإيطالية غسالاً للصحون وأدوات الطهي، تمكَّن من تجاوز بطالته بانغماسه في عالم الهنود؛ ليرقص ضمن فرقة تحت إيقاع الطبول وأصوات المزامير الهندية، وهو يرتدي رُقَعهم وريشهم فوق رأسه، ثم بعد الانتهاء من النوبة الموسيقية يقوم بدورة بين الجماهير المذهولة من رقصه بعرض قبعته عليهم؛ علّهم يرأفون عليه ببعض النقود.
أما التونسية «ص» فإنها من البارعات في التجميل؛ فهي تقضي معظم وقتها في الميادين لتعرض على الإيطاليين والإيطاليات وشمها، سواء على أيديهم أو سواعدهم، مستعملة «الحرقوص» التونسي بما يشبه الحناء أو الوشم، الذي سرعان ما يزول. فبعد أن فقدت عملها طباخة في مطعم بضواحي روما واظبت على هذا العمل مقابل بعض اليوروات علّها تكفيها مؤونة شراء علبة سجائر؛ فقد زادت مصاريف العائلة كما تقول، وها هي تحاول تجاوز الصعاب، فإيطاليا تغيرت، ولم تعد كما كانت أيام الليرة، إذ اليورو ألحق بها ضرراً فادحاً.
ويقول المهاجر «م» من المغرب إنه يحاول تجاوز الأزمة التي تعرفها إيطاليا من خلال محاولته المتكررة في التردد على المزابل الموجودة أمام أسواق الخضر، فيجمع منها ما يلقي به الباعة مع نهاية يوم العمل؛ ليعيد بيعه بأثمان بخسة؛ فهو لم يتوقف مكتوف الأيدي أمام البطالة التي تحاصره.
وذكر لنا الشاب «ع» القادم من العراق أن بطالته المزمنة في إيطاليا قد طالت، وجعلته لا يقوى على تحمُّل بقائه من غير عمل بعدما قرر صاحب محطة البنزين الذي كان يعينه في البيع ليجعلها «سالف سرفيس» التخلي عن كل العمال لعدم قدرته على دفع الرواتب، وبسبب ارتفاع الضرائب تخلى عنه على حد قوله، فأصبح مشرَّداً يجوب الحدائق يومياً، حتى تعرف على سيدات طاعنات في السن اقترحن عليه أن يتردد عليهن في مساكنهن ليسلمنه قطيع الكلاب مرتين، صباحاً ومساء؛ ليتولى التجوال بها في الحدائق لتقضي حاجتها، مقابل بعض المال الزهيد. قال لنا وهو يندب حظّه: كنت في بلدي لا أرضى برعي الغنم وإذا بي أرعى الكلاب، ولو وجدت الخنازير لرعيتها.
أما «ص» من السودان فيقول إنه كان يشتغل في جمعية تعاونية مختصة بالأجانب، اشتغل فيها مدة خمس سنوات، وإذا بها تغلق أبوابها بسبب عدم توافر التمويل من البلدية، من جراء نقص الموارد بسبب قانون التقشف الذي مسّ إيطاليا هذه السنوات، فكان أن فقد عمله، لكن صعب عليه أن يبقى بدون مورد رزق، ففكر في بيع الجوارب؛ إذ يشتريها بالجملة من المحال الصينية ليبيعها للمارة بالتفصيل.
أمام شبح البطالة الذي يتربص بالمهاجر تجد العديد يبدعون حِرفاً ما كانت تخطر ببالهم قبل حلولهم بهذا البلد. ولكن كثيراً منهم بدؤوا يفكرون في العودة إلى بلدانهم بجدية، ربما يأتي إرسال البعض زوجاتهم وأبنائهم إلى أرض الوطن تمهيداً لموسم العودة من الشمال إلى الجنوب.