للعربية جمال إقناعي إذا ما سُبكت بإبداعية فنية تُمازج جمالياً بين الألفاظ والمعاني والجُمل. وفي الشعر شواهد كثيرة على هذا. فشعر المتنبي - مثلاً - مقنع قوي الحجة من حيث المعاني، وأخاذ بمجامع العاطفة البشرية. وبغض النظر عما ما قاله النقاد عن شعر المتنبي، إلا أن الشاهد هنا هو أن المتنبي لم يأتِ في شعره بجديد مما لا تدركه العرب من الحِكَم والفوائد، لكنه أصبح الأقوى إقناعاً وتأثيراً لجمال لغته.
وأعتقد أن اللغة العربية كانت أبكر نضوجاً من اللغة اللاتينية؛ بشاهد أن الرسم التصويري كان هو اللغة المعبرة للشعوب القديمة؛ ولذلك فإنك تجد النصارى قد اعتمدوا كثيراً على التصوير في شرح دينهم، بينما اعتمد المسلمون الكتابة. وكما أن الإسلام هو الذي حفظ اللغة العربية، وشرَّفها بين اللغات، فإن العلوم الحديثة هي التي فرضت اللغة الإنجليزية، وقدمتها على لغات العالم. وبما أن علوم الشريعة كانت هي الحاضن والمُربي للغة العربية فإن تطوُّر اللغة العربية كان هائلاً في القرون الثلاثة الأولى من نحو وتنقيط للحروف وتحسين للخطوط وتقعيد للعروض وغيرها، ثم توقف التطور اللغوي مع توقف تطور الفقه وقفل باب الاجتهاد في القرون الوسطى الإسلامية، بينما مرت اللغة الإنجليزية بتحسينات متواصلة إلى اليوم؛ وذلك لأن العلوم الحديثة هي الحاضن والمربي للغة الإنجليزية. ولا تزال الإنجليزية تتطور وتُجدد قواعد كتابتها وأساليب تعبيراتها؛ لتواكب متطلبات الثورة العلمية. وبما أن الجمود في علوم الشريعة حاصل منذ قرون، وعلى عكسه العلوم الحديثة، فإنك تجد أن تخصصات اللغة العربية وبحوثها في الجامعات وغيرها لا تتجاوز تحليل النصوص القديمة وإظهار ما فيها من إبداع دون أي تقديم لتطوير كيفية الكتابة العلمية الحديثة باللغة العربية. بينما تجد أقسام اللغات في الجامعات الغربية يدرسون لغات العالم قديمها وحديثها من أجل الاستمرار في تجديد بحوث تطوير اللغة الإنجليزية.
وبعد هذا التمهيد المُختزل لأصول الموضوع، فالسؤال الذي يطرح نفسه: هل كان للغة العربية دور سلبي على العقل العربي؟ في اعتقادي أنه نعم. فالجمالية في اللغة العربية فرضت نفسها على القارئ العربي، تماماً كالخطابة في جميع لغات العالم. فالخطابة المفوهة شرط لازم لقبول السامع وإقناعه في جميع الشعوب. وجمالية التعبير في الكتابة شرط لقبول القارئ العربي خصوصاً من بين لغات العالم، (على حد علمي القاصر في اللغات الأخرى). والإشكالية هنا أن الجمالية في الكتابة باللغة العربية -التي هي شرط قبول القارئ العربي- قائمة على الإطالة وطول الجمل والتقديم والتأخير والتورية البلاغية إلى غير ذلك، وهذا يشتت الفكرة المراد إيصالها، ويزيد من احتمالية الفهم الخاطئ. ويجعل القارئ يخرج بصورة عامة عن الموضوع، لا بأفكار محددة تصل إلى نتيجة واحدة. وتربية أجيال على هذا النمط من التعليم ينتج عنه أمة يتلخص علمها في عموميات. والمفاهيم العامة تجعل من القارئ يختار أن يقرأ ما يوافق عموم فهمه. ولو قرأ ما يخالف اعتقاده فإنه لا يفهمه إلا بتصوره العام السابق. (ولنا شاهد في قصر الآيات المكية؛ فهي مباشرة في المعنى، وفي كل آية استقلالية بفكرة واضحة تصب في النتيجة العامة: هي وضوح العقيدة، وتجنيب أي لبس في الفهم، وخصوصاً أن ما يُطرح كان مخالفاً تماماً للمفاهيم الموجودة). ولو نظرنا إلى اللغة الإنجليزية الحديثة لوجدناها تعتمد الوضوح والمباشرة في إيصال الفكرة دون أي إبداعيات جمالية. كما أنها تعتمد على الجمل القصيرة جداً، وعلى المقاطع. كل مقطع يحمل فكرة مستقلة، وتحمل الجملة الأولى فيه مجمل الفكرة، ثم تبين بمجموعة جمل قصيرة، وينتهي بجملة صغيرة تكون هي الرابط إلى فكرة المقطع الذي بعده، وهكذا. ولو أردنا أن نكتب بهذا الأسلوب باللغة العربية لأصبح الموضوع المكتوب تجريدياً مملاً شاقاً على نفس القارئ ومحفزاً له لرفض ما فيه.
وهذه دعوة لعباقرة علماء اللغة واللغويات العرب لتبني مشاريع علمية لا عاطفية ولا قومية، من أجل إلحاق اللغة العربية كأداة الفَهم للحياة الحديثة. وأول مشروع أقترحه هو استخراج نظام ينص على عدم اعتماد قبول رسالة دكتوراه لا تأتي بجديد يطور اللغة العربية، مع حفظ جماليتها البلاغية؛ فالجمالية في اللغة العربية هي روحها؛ فلا ينفع تقليد اللغة الإنجليزية، فعمليتها هي روحها، وأما الجمالية فهي صفة غير لازمة لها. والبداية تكون في التفكر في أسلوب الآيات المكية الجامع بين الجمالية والعملية، فالأول شرط تقبل العربية عند القارئ العربي، والثاني شرط مواكبة العلوم الحديثة. ولا تهمل اللغات الأخرى مهما صغرت؛ فلعل في اللغات الأخرى - من غير الإنجليزية - ما يعين على تحقيق شرطي الجمالية والعملية.
hamzaalsalem@gmail.com
تويتر@hamzaalsalem