بعد أن توفي فرناندو الملك الحاكم لمعظم الشمال الإسباني، وزع مملكته بين أبنائه، فمنح ولده الأكبر سانشو منطقة قشتالة، كما منحه الرسوم والضرائب التي فرضها على مملكة سرقسطة المسلمة، وذلك بعد ضعف الدولة الإسلامية في الأندلس بعد انهيار الحكم الأموي، وتحولها إلى طوائف. كما منح ابنه ألفونسو مقاطعة ليون واشتريتس، وأعطاه حق تحصيل ما فرضه من ضرائب على طليطلة التي يحكمها المأمون بن هود المسلم. فيما منح أصغرهم “غرسيه” البرتغال وجليقة، وأعطاه حق تحصيل الضرائب على مملكة أشبيلية وبطليموس المسلمتين. كما منح ابنتيه “أوراكا” و”البيرة” حق الأديرة وبعض المدن الصغيرة الأخرى.
واستمر الوئام مع الحذر بين الإخوة والأخوات أبناء فرناندو لمدة عامين، وذلك بفضل وجود زوجة فرناندو، الملكة سانشا، وبعد أن توفيت عام 1. 67م، أخذ كل طرف في الاستعداد لتنفيذ ماحاك في نفسه، وبدأ سانشو بما تحت يد أخيه ألفونسو حاكم ليون، وانتصر في هذه المعركة، وفر إلى ليون واحتمى بها، بعد أن فقد بعض الأراضي، لكن سانشو عاود الهجوم بعد فترة من الزمن على أخيه ألفونسو وفشل في هذه المرة، وانكفأ جيشه، غير أن ألفونسو لم يطارد جيش أخيه، وعندما كان سانشو يلملم خيامه بعد اندحاره، تقدم إليه أحد الفرسان وهو “رودريجو دياث” واقترح على سانشو أن يكر على أخيه في جنح الظلام، فأخذ سانشو برأيه، وهجم على جيش أخيه ألفونسو، فانهزم جيش ألفونسو، ولجأ ألفونسو إلى إحدى الكنائس، وقبض عليه هناك وزج به في السجن، وتدخلت أختهما “أوراكا”، وطلبت من أخيها سانشو العفو عن أخيه ألفونسو فقبل شفاعتها، لكنه اشترط أن يلبس أخاه ثوب الرهبان، وأن يعيش راهباً بعيداً عن السياسة، وظل هناك بعض الوقت، ثم دبرت أخته أوراكا مكيدة لهروبه، فلجأ إلى الحاكم المسلم في طليطلة المأمون بن ذي النون، فاستقبله المأمون أجل استقبال، وهيأ له قصراً منيفاً، ولم يمنعه من الاجتماع مع مستشاريه وأعوانه، ولم يراقب حركاته وسكناته. ولقد وصف المؤرخ فيدال إكرام المأمون بن ذي النون للفونسو الذي حل ضيفاً عليه، فقال “استقبل المأمون الملك المغلوب ألفونسو بإكرام، بعد أن قطع له العهود اللازمة لسلامته، وأنزله داراً ألحقها بالقصر الملكي ذاته، وكان بوسعه أن يتمشى في حدائق الحاكم المسلم الشاسعة”. ويقول لنا مؤلف تاريخ سيلوس: “كان ملك ليون المخلوع يختلط بالسكان المسلمين ويتمشى في جنبات المدينة الحصينة، ويفكر في أي الأماكن، وبأي الأدوات الحربية يمكن اقتحامها”.
أمضى ألفونسو المخلوع قرابة تسعة أشهر من يناير عام 1.72م حتى أكتوبر من العام نفسه، وهو ينعم بالراحة في ضيافة الحاكم المسلم لطليطلة المأمون بن ذي النون.
في هذا الوقت استطاع سانشو أن يأخذ ما بيد أخيه الصغير غرسية، كما التفت على ما بيد أختيه، فبدأ بما تحت يد أخته “البيره” فأخذها، ثم سار إلى سمورة، وهي المدينة التي تحت يد أخته “أوراكا” وكانت المدينة محصنة، وصمدت أخته رغم الحصار، ثم دبرت مكيدة حيث أرسلت أحد الفرسان إلى أخيها سانشو الذي كان يحاصرها، وادعى هذا الفارس أنه سوف يدله على الطريقة التي يدخل بها المدينة، وعندما قابله بادره بطعنة أردته قتيلاً، فاجتمع الأشراف والقادة، وقرروا دعوة ألفونسو الضيف المكرم لدى الحاكم المسلم في طليطلة. يقول المؤرخ الشهير لافونتي: “إن ما أغدقه المأمون على ألفونسو من ضروب الرعاية والإكرام، وقت محنته يناقض كل التناقض تصرف أخيه سانشو نحوه، فهذا يسجن أخاه في سجن أو دير، وهذا الأمير المسلم يتلقاه في قصره ويعامله كولده، ويخصص بستانه لرياضته. ولما خلا عرش قشتالة بممالكه الثلاث، عاون هذا المسلم ألفونسو بكل سخاء وكرم، ليسير لتلقي العروش التي كانت في انتظاره، ولم يطلب منه لقاء ذلك شيئاً سوى صداقته. “إن تصرف المأمون ذي النون يكشف لنا عن العواطف الكريمة التي يعيشها هذا الجنس العربي”.
هذه شهادة حق يذكرها مؤلف مشهور لواقعة اتفقت عليها المصادر الإسبانية والعربية، وهذه جبلة في العنصر العربي سارت معه عبر القرون، وما زالت عند أولئك النبلاء الكرام جزءاً من قيمهم وأخلاقهم، يتوارثونها جيلاً بعد جيل، وما زلنا نلمسها ونستلذ بطعمها بين الفينة والأخرى، لاسيما أن الإسلام الذي جاء به رسول الهدى، جعل مثل هذه القيم نبراساً، حيث يقول المصطفى عليه أفضل الصلاة والسلام: “إنما جئت لأتمم مكارم الأخلاق”.
لنعود إلى ألفونسو لنذكر أنه - ومع الأسف الشديد - بعد أن اشتد عوده، وقويت شكيمته، عاد إلى البلاد التي استضافته بعد أن توفي حاكمها السابق المأمون بن ذي النون، وأخذ الحكم بعده حفيده القادر بالله، وحاصرها ثم دخلها، وأحال مسجدها الكبير إلى كنيسة، مع أن بقاء المسجد كان شرطاً من شروط التسليم. وكان سقوط طليطلة بداية نهاية المسلمين في الأندلس. قال أحدهم في سقوط طليطلة الواقعة في وسط الجزيرة الأيبيرية: الثوب ينسل من أطرافه وأرى
ثوب الجزيرة منسل من الوسط
من جاور الشر لا يأمن بوائقه
كيف الحياة مع الحيات في سفط