المصالحة الفلسطينية هدفٌ ترنو إليه قلوب الفلسطينيين جميعاً في شتى تواجدهم، ويشاركهم ذلك الأمل جميع المخلصين من أبناء الأمة الإسلامية والعربية بالإضافة للعديد من المتابعين للشأن الفلسطيني من الأصدقاء والمناصرين للقضية الفلسطينية من غير العرب والمسلمين.
إلا أن هذا الحلم وذلك الأمل كلما دنا من التحقق ظهر ما يفسده ويعيق الوصول إليه، فتعود النفوس لتنكفئ على نفسها ويغادر العديد منها - في كل جولة - من مربع الأمل لمربع اليأس!
لذلك كان لزاماً على كل منصف ومثقف أن يوضح للناس أين الخلل، وما هو المطلوب، وما هي المحطات اللازمة لتحقيق ذلك الحلم والهدف، فالمعظم يسمع قول الله تعالى: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} آل عمران103، ويتساءل لماذا لا نتصالح إذاً؟ لماذا لا نستجيب لهذا النداء الإلهي ونعتصم بحبل الله جميعا؟ بل ونطرح سؤالاً قد يراه البعض جريئاً : هل الذهاب للمصالحة اعتصام بحبل الله؟
الحقيقة أن القرآن واضح وصريح، وقواعده معروفة، فالإشكال في فهم الناس لآياته لا في الآيات نفسها، فالاعتصام بحبل الله لا يتحقق إلا بشروط واضحة وجلية موضحة في الآيات التي سبقت الآية السابقة، وعليه فإن عدم إدراك ذلك من قبل الأطراف الفلسطينية نفسها أو المجتمع الفلسطيني، يجعل عقولهم في حيرة وأذهانهم عاجزة أحياناً عن التحليل أو الاستنباط!
فالقرآن وضح أن أول محطة للصلح بين المسلمين فيما بينهم على طريق الاعتصام والتوحد، هي محطة عدم إطاعة غير المسلمين أو الركون إليهم، يقول الله تعالى : {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِن تُطِيعُواْ فَرِيقاً مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ يَرُدُّوكُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ} آل عمران 100، فهذه المحطة لا تستقيم إلا بفهم الإيمان ومتطلباته من الأطراف جميعاً. إذاً لا بد من جميع أطراف المصالحة عدم السماع إلى هذا الفريق أو ذاك من المغرضين من أهل الكتاب أو غيرهم، وعدم الركون لوعودهم وإغراءاتهم مهما كانت ومهما زينوها لنا.
المحطة الثانية على طريق المصالحة : اتباع نهج الله ورسوله، لا نهج غيرهم، وهذا مطلوب من الجميع : {وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَن يَعْتَصِم بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} آل عمران 101، فالهداية للصلح وعدم النزاع والخلاف هي بالاعتصام بالله أي بهديه وهدي نبيه، وهذا الهدي باقٍ في البشر إلى يوم الدين، وهذه المحطة مبنية على المحطة الأولى لأن عدم الالتفات لهذه الفئة من أهل الكتاب يتطلب التفات لغيرهم، وغيرهم يجب أن يكون منهج الله ومنهج رسوله، فننطلق في الصلح على القواعد والثوابت التي لا تغضب الله ولا تنتقص من حقوق عباد الله، وهذا ما نسميه بالاستعداد الثقافي والنفسي لإتمام عملية المصالحة لارضاء الله تعالى ومن ثم المؤمنين.
بعد هاتين المحطتين تأتي المحطة الثالثة، وهي تقوى الله سبحانه وتعالى حق تقاته وذلك من جميع الأطراف {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُّسْلِمُونَ} آل عمران 102، هذه التقوى هي محصلة للمحطتين السابقتين، ولا يمكن أن تتحقق إلا بهما، لأن بهما يبتعد الإنسان عما يغضب الله ويقترب مما يرضيه سبحانه. كما أن الاستعداد لخوض غمار أي شيء لا ليكون مجدياً إلا بالتسلح بما يمنع من الإنزلاق أثناء هذه العملية الصعبة، لأن أهواء النفوس والمتطلبات الضيقة والميزات التنظيمية والحركية المرجوة قد تطغى على الأهم والأسمى وهو وحدة الصف والكلمة والوطن.
بعد كل هذه الخطوات يمكن، بعدها تتحقق المصالحة: (واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تتفرقوا)، هذه الخطوة هي باكورة طبيعية وثمرة ناضجة وهدف محقق لما سبق وبيناه في المحطات الثلاث السابقة، ولنلاحظ هنا: (بحبل الله)، و(جميعا)، وهذه إشارة إلى ضرورة البقاء على طريق الله والوفاء بمتطلباتها، ومن جميع أطراف هذه المصالحة لا من طرف دون طرف، ودون ذلك فلن تتحقق المصالحة وإن بدأت فلن تستمر، ولذلك انتهت هذه الآية بقول الله (لعلكم تهتدون).
ولتثبيت هذه الوحدة وتلك المصالحة بعد إتمامها، لا بد من دوام تذكر جميع الأطراف فضل الله عليهم، بأن ألف الله بين قلوبهم، وأن أي قوة أخرى لن تستطيع ذلك مهما كانت وأياً كانت، وهذا بحد ذاته من آيات الله لسبب بسيط، وهو أنه سبحانه وتعالى خلق هذه القلوب وهو أعلم بما يصلحها، وهو وحده فقط القادر على توحيدها وتقريبها من بعضها البعض وإذهاب الضغائن والأحقاد منها.
والسؤال المهم، ماذا لو لم يلتزم أحد الأطراف بهذه المحطات والشروط؟ يجيب القرآن كذلك، فيقول: {وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُواْ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُواْ الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَآءَتْ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُواْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} الحجرات 9، ففي هذه الحالة لا يجوز أن نبقى على الحياد، بل لابد للجميع من الضغط على الطرف الرافض لهذه الشروط وتلك التوجهات القرآنية، ليرجع لرشده ويستجيب لأمر الله، لأن الله لا يريد للمؤمنين أن يتفرقوا أياً كان حالهم، في السلم أو الحرب، فما بالنا إن كانوا يقاتلون عدواً يحتل أرضهم ويهدد مقدساتهم ويعتقل أعرافهم وكبراءهم، كما أن الله يريد لكل إنسان أن يأخذ دوره في المجتمع ويكون إيجابياً لا سلبياً، ويصدح بالحق لتبقى الأمة حية وقوية.
إن الحيادية في المصالحة مخالف للهدي القرآني، وهذا يعني أننا سنبقى مكاننا ما لم يأخذ كل طرف مكانه الصحيح وفق الرؤية القرآنية ويقوم بدوره الذي وضعه القرآن، سواء كان مناصراً لأحد الأطراف المتنازعة أو كان مصلحاً لها.
إذاً مما سبق يتضح لنا السبب في عدم إتمام المصالحة حتى اللحظة، ونستطيع أن نتوقع متى ستحقق، فعلى الجميع، أطراف المصالحة أو الراعين لها، من أهل فلسطين أو غيرها، أن يدركوا ذلك، ويعلموا أن لا مناص مما ذكرنا، وإلا سيصبح الحديث عن مغالبة فئة لفئة، وإن بدت في ثوب مصالحة، وهي ليست بذلك، لأنه قد يُدعم طرف من جهات خارجية على حساب طرف فيتمكن منه، إلا أن الأيام دول، والعدو لا يريدنا موحدين إلا على شروطه وحسب أجندته بما يخدم مصالحه ومشروعه، وهذا ما يجب أن نحذر منه جميعاً، وصدق الله القائل {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ}.