النار من أهم الأشياء التي عرفتها البشرية. طوّع البشر هذه العملية الكيميائية واتّخذوا منها وسيلة لطبخ الطعام وإضاءة الظلام ومحاربة الأعداء وإبعاد سباع الليل التي تخرج إذا غابت الشمس ودَجَت السماء، وأحد أبرز منافعها بلا شك هو الدفء، فصار البشر أقْدَرَ على التعايش مع المناطق الأبرد ولم يَعُد الشتاء حكماً بالموت على جموعٍ من البشر الذين لا تستطيع أجسامهم الضعيفة أن تقاوم شراسة هذا الفصل القاسي، وهذا من فضل الله على عباده ونعمة امتنّ الله بها سبحانه علينا، ومن ذلك قوله سبحانه في الآيتين 71 - 72 من سورة الواقعة: (أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ أَأَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنشِؤُونَ)، وتعني كلمة «تورون» أي التي تقدحون الزناد لتشعلونها، وأورَى النار أي أوقدها.
ومع تطور العِلم صار الناس لا يستدفئون بالنار بل اتجهنا للمكيفات التي تحتاج الكهرباء، والكهرباء لم نَكُن لنستطيع توليدها بدون نِعم الله الطبيعية الأخرى كالنفط والفحم، وهناك دول أوروبية ابتعدت عن هذا الوقود الملوّث للبيئة واتجهت لتوليد الطاقة من الشمس، والنرويج مثلاً تحصل على أكثر من 99% من طاقتها من محطات الطاقة المائية التي تستخدم قوة دفع التيارات المائية في البحار والأنهار، وهذه دول تحتاج الطاقة للدفء بلا شك خاصة مع برودتها، لكن هناك أمكنة تحصل على دفئها من مصادر عجيبة لا تخطر على البال، منها شيء غريب في إحدى المدن الأمريكية.
إن السوق الذي يُسمّى مُجمَّع أمريكا التسوّقي -»مول أوف أميريكا»، والمفارقة أن المالك كندي!- سوق ضخم في ولاية منيسوتا الأمريكية، والمدينة التي تحويه باردة. لا شيء غريب في هاتين المعلومتين، وإنما الغريب ما يلي: على الرغم من البرودة الشديد في هذه الولاية إلا أن هذا السوق لا يحتوي على نظام تدفئة! لماذا يا ترى؟ هل يتركون المتسوقين يتجمدون؟ في المدينة التي ينتمي إليها هذا السوق تنزل درجة الحرارة إلى ما دون الصفر في الكثير من الأيام، وحتى في أشد أيام الصيف فإن أعلى درجة حرارة لا تتعدى في العادة منتصف العشرينات المئوية، ومعظم السنة المدينة تعيش في برد قارس. كيف إذاً يحتفظ هذا السوق بدرجات حرارة مناسبة؟
قبل أن أجيب، أريد أن أسأل القارئ: هل جلست ذات مرة في مكان صغير متكدس بالبشر مثل غرفة ضيقة أو حافلة ممتلئة؟ إذا كان هذا الموقف يحصل لك كثيراً فأحد الأشياء التي ستلاحظها هي الحرارة. هل خمّنت الآن كيف يُسخِّن هذا السوق أجواءه؟ نعم، بالناس! هذا السوق الكبير مساحته أكثر من 232 ألف متر مربع ويمتلئ بالمتسوقين، ومن كثرة الإنْس الذين يروحون ويغدون في هذا السوق والحرارة الطبيعية في الجسم البشري - إضافة إلى الحرارة الزائدة التي يُنتجها الجسم مع كثرة الحركة - فإن السوق لا يحتاج إلى نظام تدفئة على الرغم من البرودة الشديد في طقس تلك المدينة، فالأجساد البشرية التي تملأ السوق هي التي تُسخّنه، بل إن هذه الحرارة البشرية قوية لدرجة أن السوق يشغل مكيفات الهواء الباردة ليخفض كل هذه الحرارة! إننا نحصل على دفئنا من مصادر شتّى، وبعضها أغرب من بعض!
Twitter: @i_alammar