خلق الله الإنسان في هذه الدنيا لعبادته أولاً وصرف جميع أنواع العبادة وما يحتمل حقيقة أو مجازاً على أنه عبادة لله سبحانه وتعالى، لا يشرك بعبادته أحدا.
وعندما يتحرر الإنسان من عبادة المخلوق، أياً كان هذا المخلوق، ويصرف كل أنواع العبادة لله وحده فهو يحقق أول معاني الحرية وأساسها وركنها الركين.
أما ثانياً فهو معني بإعمار هذا الكون من خلال فهم وإدراك ما يؤدي إلى بنائه وإثراء حياة الإنسان فيه.
والبناء هنا لا يعني فقط الإعمار (المادي) بما يشتمل عليه من صروح ومبان وطرق وجسور وخدمات تلبي حاجات الناس ورفاهيتهم؛ وإنما إلى إعمارها بالعدل ومناهضة الظلم والشر والمرض والفقر.
ومن أجل أن نحقق هذه الغايات لا بد أن نتسلح بالفهم؛ والفهم هنا يعني (المعرفة)؛ فلا يمكن لإنسان أن يدفع ظلماً ولا أن يُناهض شراً أو أن يعالج مرضاً وفقراً إذا لم يكن مُدركاً لبواعث ومسببات هذه الآفات.
وهذا يعني أن (المعرفة والفهم) هي أسس نجاح الأفراد وكذلك نجاح وتطور وتقدم المجتمعات على مر التاريخ.
هنا لا بد أن نفهم أولاً (قانون السببية)؛ وهو بالمختصر المفيد يقول: إن لكل شيئاً سببا؛ فالله سبحانه وتعالى خلق هذا الكون وأجراه وفق نظام متقن ودقيق يحكمه قانون السببية؛ وكان بإمكانه، وهو القدير على ذلك، أن يتحقق الأمر أي أمر دونما سبب، وإنما لحكمته جل وعلا جعل لكل شيئاً سببا، وجعل السبب مقترنا بالنتيجة اقتراناً وثيق الارتباط ولكنه (غير حتمي الحدوث).
هذا السياق في النهاية يقول: لن يصل الإنسان إلى النتيجة أي نتيجة إلا إذا بذل ما في وسعه و تلمس جاداً الأسباب التي تُؤدي إلى تحقيقها؛ أي أعمل ذهنه باحثاً ومنقباً عن مسبباتها.
وهذا إطلاقاً لا يعني إلغاء الاتكال، فأنت هنا كمن يركب عربة بعد أن يتأكد منها ومن أنها صالحة ولا يعتريها أي خلل لتقطع بها مسافة طويلة، فتبذل ما في وسعك من الأسباب كي لا تتعطل العربة، ومع ذلك قد تتعطل، إلا أن الذي يجعل الاتكال شرط ضرورة يقتضي أن تسلم أمرك إلى الله جل وعلا مهما بذلت من أسباب.
وفهم بواعث الأسباب حركة دائمة ودائبة لا تتوقف؛ فكثير من الظواهر الطبيعية التي كانت مرتبطة ارتباطاً تاماً بأسباب معينة في تصور الإنسان واجتهاداته، جاء العلم الحديث وأثبت بالتجربة والبرهان أن هذه الأسباب غير صحيحة، وعزاها إلى أسباب أخرى.
والسؤال الذي يطرحه السياق: هل نضرب بما توصل إليه العلم عرض الحائط، ولا نأخذه كسبب لفهم النصوص؟ خذ مثلاً أن الأرض تدور حول نفسها، وينتج عن دورانها تقلب الليل والنهار.
هذه الحقيقة التي نعتبرها اليوم مسلمة لا تقبل الجدل كانت في الماضي القريب مسألة يدور حولها جدل بين من يقبلها كحقيقة علمية ثابتة، وبين رافض لها، متأولاً فهماً معيناً للنصوص، مؤداه أن الشمس هي التي تدور حول الأرض؛ وعندما نعتبر أن مثل هذا (الفهم) هو الأصل لمجرد أن بعض السلف قال به، فإننا هنا ننسف أهم قاعدة يجب أن نضعها أمامنا لفهم النصوص ومفادها: (الرجال يعرفون بالحق ولا يعرف الحق بالرجال)؛ فأغلبيتنا يُرددون هذه العبارة ويقولون إنهم ملتزمون بها، لكنهم عند التطبيق ينحون منحاً آخر وينسفونها نسفاً كاملاً فيضعون فهم هذا أو ذاك من السلف والخلف هو المعوّل عليه حتى وإن جانب (الحقائق) العلمية وليس فقط النظريات التي لم تثبت بعد.
إنها دعوة صادقة أن نُعيد تأسيس منهجيتنا في التعامل مع فهم النصوص وليس النصوص ذاتها، بما يواكب ما توصل إليه العلم المعاصر من حقائق ثابتة.
إلى اللقاء