بداية أودُّ أن أشير إلى أني ذكرت في مقالة الأسبوع الماضي أنّ أمين الحافظ كان آخر رئيس لسوريا من السنّة. وقد نَبَّهني أحد الإخوة الكرام؛ مشكوراً، إلى أنّ آخر رئيس سُنِّي لسوريا كان نور الدين الأتاسي،
الذي ضاعت الجولان في عهده، والذي كان وزير دفاعه حافظ الأسد قبل أن يصبح أول رئيس للدولة من الطائفة العلوية.
وبعد:
يصعب على المرء، في ظِلِّ ما يجري من أحداث معظمها مأساوي، أن يرى الحديث عن واحد منها أولى من الحديث عن آخر. فما يجري في العراق، الذي كان مُحتلاًّ من قِبَل أمريكا، التي سلَّمته في طبق من ذهب إلى علوج الحقد المُتحكِّمين في إيران، فيه من الأحداث الكثير مما هو كارثي على أُمَّتنا العربية. وكنت قد أشرت إلى ذلك في أبيات من قصيدة عنوانها: “نَهرٌ من العجب”. ردًّا على من يتجاهل جرائم المحتل الأمريكي هناك، قائلاً:
كَيفَ لا يَبدو لمقلته
ما بدا من جُرْمِ مُغتصِبِ
سُلِّمت بَغدادُ في طَبَقٍ
- لعُلوجِ الحِقْدِ - من ذَهبِ
وتَلظَّى فـي مَرَابِعِها
مُستطيرُ الرُّعبِ من لَهبِ
وجَنَتْ صهيونُ ما حَلَمتْ
فِيه من مُستَعذَبِ الأَرَبِ
وما يجري في مصر، التي تفاءل الكثيرون في هَبَّتها التي أنهت حكماً بلغ درجة من الفساد يُضرب بها المثل بحيث أضاع مكانة ذلك البلد إقليميًّا ودوليَّا، جدير بأن يُتحدَّث عن تضاؤل ذلك التَّفاؤل نتيجة ما يُشاهَد من انتكاسات بينها التُخبُّط في اتِّخاذ القرارات وتَجلِّي الانتهازية بأبشع صورها، وبخاصة فيما يَتعلَّق بقضايا أُمَّتنا العامة وفي طليعتها قَضيَّة فلسطين وقَضيَّة سوريا التي يمارس فيها أبشع صور المجازر الآن.
أما القَضيَّة الفلسطينية، التي نقول دائماً: إنها قَضيَّة أُمَّتنا الأولى؛ عـربياً وإسلامياً، فالحديث عنها يطول ويطول. فبعد أن انتقلت إلى رحمة الله الشخصيات الكبيرة المُؤثِّرة، التي كان لها الدور الأكبر في صياغة اللاءات الثلاث المشهورة في مؤتمر الخرطوم، عام 1967م؛ وهم الملك فيصل بن عبد العزيز والرئيس جمال عبدالناصر والرئيس هواري بومدين، بدأ مسلسل تنازلات الزعامات العربية يأخذ طريقه دون عوائق تُذكَر. وكانت بداية هذا المسلسل المأساوي اتِّفاقية كامب ديفيد المشؤومة، التي أخرجت مصر - بكل ما لها من ثِقّل - عن ميدان المواجهة مع الكيان الصهيوني. وما دامت مصر قد حُيِّدت فإنه لم يكن غريباً أن يَتشجَّع ذلك الكيان ويجتاح لبنان ويرتكب ما ارتكب من جرائم بينها الإشراف المباشر على مجزرة صبرا وشاتيلا. وتوالى مسلسل تنازلات الزعامات العربية. وكلما تَحقَّق تنازل من الزعامات العربية ازداد الكيان الصهيوني إقداماً على اتِّخاذ خطوات جديدة لتهويد فلسطين بما فيها القدس ومسجدها الأقصى. وكنت قد أشرت إلى نتائج تلك التنازلات في أبيات من إحدى القصائد قائلاً:
غَدتْ فلسطين أشلاء مُمزَّقةً
وحَلَ في أهلها فَتْكٌ وتَشريدُ
والقدس غَيَّر مُحتلٌ هُويَّتهـا
وانتابها من يد الأوباش تَهويدُ
والسادرون من الحكام دَيدنُهم
في كُلٍ نازلة شَجبٌ وتَنديدُ
هاموا وراء سراب السِّلم زادهمُ
من عَمهِّم سَامْ تَوجيهٌ وتَعميدُ
باعوا المواطن كي تبقى مناصبهم
يُحيطها من رضا الأسياد تَأييدُ
ولم يكن غريباً - نتيجة ما يحدث على أرض الواقع - أن تحذو الأردن حذو مصر، فتعقد اتِّفاقية مع الكيان الصهيوني أَدَّت إلى نتائج منها إقامة شراكة في مشروعات اقتصادية (رحم الله زماناً كانت الشركات الأجنبية فيه تقاطع إذا تعاملت مع الكيان الصهيوني).
على أن الأشد إيلاماً كان توقيع الزعماء الفلسطينيين أنفسهم على اتِّفاقية أوسلو، التي كان من بنودها البالغة السوء أن يكون هناك تنسيق بين أجهزة أمنهم وأجهزة أمن الكيان الصهيوني؛ وهو تنسيق الهدف منه ضرب أيِّ مقاومة للاحتلال الصهيوني. أما الطامة الكبرى فهي طرح مبادرات من قِبَل الزعامات العربية بصورة جماعية للسلام مع الكيان الصهيوني. وكانت أولى تلك المبادرات المبادرة التي طرحها الملك فهد بن عبد العزيز - وكان حينها وَليًّا للعهد - في مؤتمر فاس، وتَبنَّاها ذلك المؤتمر؛ وهي التي بُلوِرت، فيما بعد، لتكون مبادرة الملك عبد الله بن عبد العزيز في مؤتمر بيروت. وكان حينها، أيضاً وَليًّا للعهد، وأقرَّها بقية الزعماء العرب في ذلك المؤتمر. وفي الأيام الأخيرة أبدى الزعماء العرب مزيداً من التنازلات عن الأمور الأساسية في القضية الفلسطينية بحيث لم يكتفوا بالمطالبة بحدود 1967م؛ بل تنازلوا عن التمسُّك بذلك مقابل ما قيل عنه تبادل في الأراضي؛ وهو أمر يدرك من له أدنى معرفة بالواقع على الأرض أن الكيان الصهيوني لن يتنازل عن شبر مما هَمَّه تهويده، وهَوَّده، من الأراضي الفلسطينية المحتلة. ولم يكن غريباً أن يُرحِّب قادة أمريكا، الذين يعلم الجميع أنهم مع ذلك الكيان؛ قلباً وقالباً، في كل ما يريده ويرضاه.
على أنّ قادة الكيان الصهيوني؛ مُؤيَّدين من أمريكا، يطالبون بأن يعترف الزعماء العرب بيهودية ذلك الكيان؛ تمهيداً - فيما يبدو - لتنفيذ خطة ما يُسمَّى بالترانسفير. وذلك بعد أن رأى أولئك القادة الصهاينة ما رأوا من سرعة تَوالي خضوع الزعماء العرب وتنازلاتهم. وأظن أنه ليس من المستبعد على هؤلاء الزعماء - في ضوء مسيرة تاريخ تنازلاتهم - أن يعترفوا بما يُطلَب منهم؛ لا سيما وقد باركت أمريكا، سيدة الجميع، تلك المطالبة الصهيونية، وأيَّدتها.
وللحديث بقية إن شاء الله.