احتفلت المملكة أمس الجمعة بتخريج أكثر من ثمانية آلاف مبتعث للدراسة في الجامعات الأمريكية في تظاهرة علمية وثقافية فريدة، تتكامل مع سلسلة احتفالات مماثلة بتخريج أفواج من المبتعثين إلى بريطانيا، وأستراليا، واليابان، ونيوزيلندا، وفرنسا، وألمانيا وغيرها من الدول المتقدمة.
لقد انطلق برنامج خادم الحرمين الشريفين للابتعاث الخارجي في مرحلته الأولى عام 1426هـ ودخل إلى المرحلة الثانية التي تنتهي عام 1435هـ ثم مدد إلى المرحلة الثالثة التي تنتهي عام 1440هـ وخرج إلى الآن أكثر من سبعة وأربعين ألفا في تخصصات مختلفة بشروط دقيقة تحافظ على مستوى عال من التحصيل في جامعات عالمية مشهود لها بالتميز، ووصل العدد إلى 155 ألفا، ومن المأمول أن يصل إلى مائتي ألف بنهاية المرحلة الثالثة.
وبدراسة حيثيات فكرة الابتعاث ودوافعها ؛ نجد أن المملكة تجاوزت عقدة الصدام الحضاري بين الشرق والغرب، وما نأخذ وما ندع، وتجاذبات الهوية والعولمة منذ زمن مبكر جدا؛ فلم يشكل الصراع بين الغرب والشرق أو الهوية والفناء في الآخر والطروحات القديمة التي انشغل بها كثيرون من المفكرين في عالمنا العربي تيارا قويا مانعا من التواصل الحضاري؛ لأن تحديث بلادنا بني على أسس سليمة، ونهض على منطلقات واضحة، وتواصل برفق وهدوء، أو بسياسة الخطوة خطوة، متكئا على الاحتماء بقيم الدين والانطلاق منه في تحديد المسارات برؤية إسلامية مستنيرة، آخذا من الحضارات العالمية ما يرفع البناء ويقويه.
وربما كونت التربية الدينية القوية وغلبة المشاعر الروحية بنية صلبة واثقة للتعامل مع ما يمكن أن يشكل صدمة حضارية لأجيال شابة ناشئة وجدت نفسها فجأة تندغم مع ثقافات مختلفة وحضارات جديدة عليها في المفهومات والرؤى والمسالك؛ وكان الأثر السلبي الذي رصده الباحثون الاجتماعيون على دفعات عديدة من المبتعثين يكاد يكون غير ملحوظ أو لا يشكل ظاهرة؛ مع أن من المنتظر أن تحدث بعض الأزمات النفسية أو الأخلاقية أو ما يمكن أن نسميه معضلات التكيف مع المجتمعات الجديدة، وهو إن رصد عند بعض المبتعثين؛ فإنه أمر ليس غريبا ولا مستبعدا ؛ باختلاف حالات المناعة النفسية من حيث القوة والضعف من إنسان إلى آخر.
إذاً لم يشكل الابتعاث بهذه الأفواج الضخمة آثارا سلبية كان بعض المتوجسين يتوقع حدوثها؛ بل أظهر عشرات الآلاف من أبناء بلادنا صورا رائعة من التميز العلمي والتفوق البحثي أبهرت أساتذتهم في الغرب والشرق، وعاد كثيرون متفوقون وقد انقلبوا على أنفسهم، وكأن التعلم بين أحضان حضارات أخرى مختلفة يعيد صياغة الرؤى نحو العالم والإنسان والحياة وتعدد الثقافات ومعنى الوجود الفاعل المؤثر، ويبنى في الداخل تقييما جديدا للوقت المثمر، وللإنتاج المفيد، وللتخطيط الدقيق للمشروعات، ولمعنى النجاح ومعنى الفشل، وللعوامل التي تبني نهضات الشعوب وتسهم في تقدمها.
ليس الابتعاث للدراسة المنهجية وتحصيل الشهادات العلمية للظفر بوظيفة مرموقة فحسب؛ بل هو إعادة صياغة من جديد لوعي جيل كامل بكثافة عالية لينطلق ببلاده وباندفاع شديد نحو المستقبل الحضاري المنشود، متجاوزا عراقيل الفكر المحبط ومخاوف اقتحام حصون البلادة واليأس والكراهية والمختلف، فليس من المقبول أن يذهب المبتعث إلى معاقل العلم ومنارات البحث ومراكز الجد في العمل والانضباط ويأتي كما ذهب أو أسوأ لا جديد في شخصيته إلا لقب علمي أو شهادة من جامعة غربية وقليل من رطانة بلغة أخرى!
لقد عالج برنامج خادم الحرمين الشريفين للابتعاث أزمات عديدة؛ منها: أزمة قلة الجامعات في المملكة والتي تراكمت سنين طويلة بسبب الركود وعدم التوسع، وعالج أزمة تهيئة وبناء الطاقات العلمية المؤهلة للإسهام في نهضة بلادنا؛ سواء كانوا أساتذة في الجامعات التي يتوالى إنشاؤها والتوسع فيها، أو أطباء ومهندسين وخبراء في التخصصات اللازمة لمشروع النهضة، وعالج أيضا أزمة الانفتاح والتكيف مع الثقافات الأخرى المختلفة.
moh.alowain@gmail.commALowein@