النفوس البشرية في تكوينها الخلقي واحدة بين الطيّب والخبيث، وكذا في تركيب أعضائها، بل وفي وظائف الخلايا والأنسجة متقاربة، لكن النفوس المؤمنة تختلف عن النفس الكافرة، لأن الله طهّر الأولى بالإيمان وحسن الاستجابة لشرع الله الذي شرع لعباده.
ولأن النفس المؤمنة قد زكاها الإيمان، والله يمتنّ على عباده المستجيبن بالتزكية، وضدها الفجور والخسران، كما قال سبحانه في سورة الشمس في التزكية وضدها فأقسم بها، والله سبحانه يقسم بما يشاء من مخلوقاته بعد أن أقسم جلَّ وعلا: بالشمس والقمر والنهار والليل، أقسم سبحانه بالنفس فقال: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا} (الشمس 7-10).
والتزكية للنفوس لا تكون إلا من الله، حيث نهى سبحانه البشر عن تزكية أنفسهم فقال: {فَلَا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} (النجم، آية 32)، لأن الله طهّر نفس المؤمن، بحسن الاستجابة والانقياد بطواعية لأمره جلَّ وعلا، وأهينت الأخرى بعصيانها، ومعاندتها شرع الله فكانت النفس الزكية في نعيم وسعادة أما الأخرى ففي شقاء وخسارة.
فالإيمان بالله رباً، وإلهاً معبوداً لا شريك له والتصديق بمحمد -صلى الله عليه وسلم- رسولاً من عند الله، مع التصديق بما جاء من عند الله تزكية للنفس، وطهارة للروح وإخراجاً للنفس من أدران النقائص والموبقات.
والنطق بالشهادة يعتبر أول مدخل للإسلام، لأن ذلك دلالة على الاستجابة مع الرغبة في الطهارة النفسية، والابتعاد عن رِبقة الضلال،
وأسامة بن زيد حِبّ رسول الله مع مكانته عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، قد غضب عليه رسول الله وعاتبه عندما أُخبر عنه، بأنه قتل رجلاً في معركة، بعد أن شهد بوحدانية الله، لأن ذلك دلالة ظاهرة على الاستجابة، فقال أسامة يا رسول الله إنما قالها خوفاً من القتل، فقال الهادي البشير: “هل شققت صدره؟ هل عرفت ما في قلبه؟ كيف بك إذا جاءتك لا إله إلا الله تحاجك عند الله؟”، فمازال يكررها حتى قال أسامة -رضي الله عنه-: وددت أن الأرض انشقت وابتلعتني، أو أن أمي لم تلدني.
إن تعاليم الإسلام وشرائعه، تربي النفوس، وتعدها لمكانةٍ كبيرة وسمة الإسلام التي يحرص عليها المستجيب، وتتكرر في آيات كثيرة من القرآن الكريم، وتأتي في أحاديث عديدة من توجيهات المصطفى -صلى الله عليه وسلم-: هي خصال نبيلة يرفع الله بها النفس المسلمة في طباعها وأعمالها، وفي رغبتها ورجائها من الله، وفي تأثير ونتائج تلك الأعمال.
ذلك أن للإسلام على هذه النفس، التي يجب على المؤمن أن يتعمّق في أسرارها، وأن يتبصر في بعض خفايا تكليفها وامتثالها، ضريبة يجب على المسلمين إدراكها في العبادات وحُكمِها، وفي النفس وطباعها وفي الأخلاق وتهذيبها.
فحُسن الخلق منزلة رفيعة ترعاها تعاليم الإسلام، ويثيب الله عليها إذا قُصد بذلك النيّة الخالصة لله لأن الأعمال بالنيات، وقد كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مثالاً لحسن الخلق وسماحة النفس، حيث مدحه ربُّه في سورة القلم بتأكيد هذا الخلق ومكانته فقال جلّ وعلا: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} (القلم 4)، وكما قالت عائشة -رضي الله عنها-: لما سُئلت عن خلقه فقالت: “إنَّ خُلُقَهُ القرآن”.
الصبر في البأساء والضراء، وحين البأس هذه منزلة يحثّ عليها الإسلام، لما في هذا من تقويم الاعوجاج النفسي، والدفع للتحمل والاحتساب، وهي لفتة خاصة لها وزنها في إبراز صفات الصابرين وتمييزهم ولما يرجوه الصابرون من مقام عظيم كما قال سبحانه: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ} (الزمر 10). والوفاء بالعهد من سمات الإسلام التي يحرص عليها، ويعدها من شِيم الإسلام، التي يُحرص عليها، جزاءً في الميزان آية تدل على الإيمان، وعلامة الآدمية البارزة وبرهان الإحسان لأن الوفاء يُوجِد جواً من الثقة والصدق، والطمأنينة في العلاقات فردية كانت أو جماعية.
وإيتاء الزكاة تهذيب للنفس، وتكافل اجتماعي لكي يجود الإنسان بأعز ما يملك أداءه للفقراء حقاً لله في هذا المال وسخاء به لأهله المستحقين، تطويعاً للنفس في البذل وترغيباً لها في الأجر، وتحبيباً لها في فعل الخير والتخلّق بأنبل الصفات التي يحبها الله، لأن المسلمين بعملهم هذا، يرجون من الله ما لا يرجو غيرهم ولأن الزكاة طهرة وحصناً للمال.
والإحسان إلى الناس في بذل المعروف جزء من أصل الاعتقاد، وبعض من تكاليف المحبة بين المؤمنين في سخاء نفسي، وبذل مالي لتمكين رابطة الأخوة في الدين، وإبراز سمة من سمات البيئة الإسلامية، حيث تتمكن الرابطة الاجتماعية، وتبرز سمات الإسلام، الخالية من المطامع والماديات وإبراز الصفات الحميدة كما قال الشاعر:
الناس للناس من بدو وحاضرة
بعض لبعض وإن لم يشعروا خدم
وهكذا لو سرنا مع تعاليمه وشرائعه، فإننا سوف نجدها جميعها تهتم بالنفس وتزكيتها، وتهذيب طباعها، وتقويم ما فيها من اعوجاج، لتدفعها للخير امتثالاً واستجابة، وكبح جماحها عن الشرّ انتهاء واستسلاماً.
فالطب الحديث مهما أوتي من تقدم ومعرفة لا يغيِّر بمبضع الجراح، ولا بتحليل المختبر شيئاً من التربية الروحية والجسدية ولا التوجيه العقلي من جمعيات الرفق وحقوق الإنسان، فلا تغيّر التوجيهات بمثل ما تتركه تعاليم الإسلام من أثر، والمختصون في علم النفس، وفلسفة علم الاجتماع، بل حتى النظريات التربوية، وتعقيدات علم الإدارة هذه كلها لا تستطيع أن تحوّل الصفات المتأصلة في بعض النفوس إجراماً أو جنوحاً أو عدم رعاية للأمانة بمثل تعاليم الإسلام. فإن الإسلام إذا وقرت تعاليمه في الفؤاد، وارتوت النفس من منهله العذب.. هذه الأمور تضع على الأعمال التي نهى عنها الإسلام حجاباً يحمي النفس كحارس أمين، يراقب التصرفات ويحجز الجوارح برقابته عن الجنوح، وهذا هو معنى الإحسان الذي أخبر جبريل به النبي -صلى الله عليه وسلم-: (أن تعبدَ الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك). إن تعاليم الإسلام حِصن للمؤمن يحميه من كل ضرر، تهذّب الطباع لسعادة المجتمعات وأمنها.
ولئن وضع المهتمون بالنتائج، والراغبون بتحقيق الأمن في بلادهم التي لا تدين بالإسلام، الحوافز المادية والتشجيعات المعنوية لتغيير سلوك بعض النفوس، لكن لم تحقق ما أمّلوه رغم الجهود والمتابعة، لأن المجرم كالعضو الفاسد في الجسد، إن لم يُستأصل سرى في الجسم كله.
والله سبحانه وتعالى أرأف بعباده، فجاء في حكم القصاص من الله أمراً زاجراً، حيث قال سبحانه: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (البقرة 179).
ففي آيات القصاص، سواء كانت عضواً بعضو، أو نفساً بنفس رادعٌ عن الجريمة أياً كان نوعها، وحماية للمجتمع أن تتسع نقاط الجريمة أو يُتهاون بها.. وهذا هو الرادع الزجري، يقولون عن عنترة بن شداد، أنت أشجع الناس، قال: لا ولكني أضرب الضعيف ضربة يخاف منها الشجاع، وهذا من العدل في حكم الإسلام. وهكذا نرى العقوبات في الإسلام، فإن في تطبيقها حياة للمجتمع كله، أي أن المجتمع بأكمله يطمئن وترتاح نفوسهم مع الآخرين، حيث إن الحكم الزاجر يردع من كانت نفسه تسوّل بإخافة المجتمع، وفي ذلك طمأنة للمجتمع، كما قال مندوب الروم، لما بحث عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- فوجده نائماً متوّسداً كومة من التراب، قد أثّرت في صفحة خدّه، فقال: “حكمت فعدلت فأمنت فنمت يا عمر”.
لأن النظام النفسي الذي يضعه البشر، لا يُحقق الطمأنينة النفسية، لأن ما كان من البشر يعتريه القصور، وما كان عن الله العالم بما يصلح شؤون مخلوقاته وعباده لا يعتريه قصور وليس به، كما قال عزَّ وجلَّ: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً} (النساء 82).
لكن الرقابة العقدية التي يطمئنها النص الإلهي الشرعي والإحصاء الوجداني بإحصاء أعمال النفس، وتلقيها جزاء ذلك، مما يجعل النفس المؤمنة تأخذ بالتي هي أحسن فتزكو في عملها. النتيجة الحسنة التي هي جزاء وفاق، كما قال سبحانه في هذا النص الكريم: {مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} (الكهف 49).
ويقول صلى الله عليه وسلم: (حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوها قبل أن توزنوا وتأهبوا للعرض الأكبر على الله) (من خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم).
وأمثال هذا مما يخاطب القلب، ويتفاعل في النفوس أكثر من أي رادع مادي تضعه الأنظمة البشرية وقد اعترف كثير من مفكري العالم بدور تعاليم الإسلام في تهذيب النفوس وترقيق الطباع، وفي تأديب النفوس وارتقاء الأعمال، ومحاربة الفساد الاجتماعي والخلقي:
يقول المسلم الفرنسي: رجاء جارودي في كلمة موجّهة لبعض المفكرين الغربيين: إن حل المشكلات التي يعاني منها الغرب: من جريمة وفساد، وأمراض بدنية ونفسية، وإن القضاء على القلق النفسي، والاضطراب الاجتماعي وإن التخفيف من المخدرات والخمور التي انغمس فيها شباب الغرب، للهروب من واقعهم كل هذا وغيره، قد أوقعهم في مشكلات ومصائب أكبر، لا يتم إلا بالإسلام معالجتها، لأن الإسلام يهذّب النفس ويزكي أعمالها مثلما رقّق طبائعهم من خشونة وجفاء البادية وجعلهم قادة المدنية والعدالة للبشرية.
ويقول أحد حكام الولايات المتحدة: إن خلاص أمريكا والمجتمع الدولي الغربي من الجريمة عن طريق الإسلام، إذ هو يهذّب الطبع، ويحفظ الأمن، لأنني رأيت من خرج من السجن مسلماً لا يعود للجريمة مرة أخرى، ثم يقول هذا الأمريكي: وهو من الولايات الجنوبية الكثيرة الإجرام، وقال لي عندما زرته وكان يدعو الدعاة المسلمين لزيارة السجون والتحدث مع المساجين: لن ينقذ أمريكا من الجرائم الكبيرة والصغيرة إلا الإسلام وتعاليمه وشرع الله فيه، وقد لاحظت أن من خرج من السجن مسلماً لا يعود للجريمة مرة أخرى، بل صلاح نفسه ألزمه البعد عنها.
mshuwaier@hotmail.com