لم يكن سقوط غرناطة سوى مرحلة نهائية من مراحل السقوط التي تسارعت بعد نهاية العصر الأموي وظهور عصر الطوائف، وإن كان المرابطون قد أبقوا بعضا من ذلك الفردوس إلى أجل، ثم تناقصت المساحة التي في أيدي المسلمين في نهاية العصر المرابطي، وجاء الموحدون لتبقى البقية على ما هي عليه، ثم أخذت في الاضمحلال حتى جاء بنو نصر وأبقوا بقية البقايا، وكانت غرناطة هي ذلك المتبقي من الفردوس المفقود، وقد طال الأمد بذلك الوجود الإسلامي القليل في شبه الجزيرة الإيبيرية حتى امتد نحوا من مائتين وخمسين عاما إلى أن سقط ذلك المتبقي، والأطلال شاهدة على حضارة سادت ثم بادت لتتلوها حضارة أخرى، وهكذا حال الدنيا بأسرها.
في تلك الفترة من النهاية المؤلمة عاش رجل اسمه أحمد بن محمد بن يوسف الصنهاجي الحميري الأندلسي الشهير بـ (الدقون)، وهنا نقول إنه قضى جزءا من حياته في غرناطة بعد سقوطها وشاهد بأم عينه إرهاصات السقوط، ثم السقوط الأخير الذي ختمت مشهده عائشة الحرة والدة أبي عبد الله الصغير آخر ملوك الأندلس بقولها لابنها:
ابك مثل النساء ملكا مضاعا
لم تحافظ عليه مثل الرجال
كما أن الدقون عاش الشطر الآخر من حياته في فاس بعد أن سقطت غرناطة وغربت شمس الأندلس الإسلامية. وفي فاس أخذ يتذكر الأندلس، ويحن إلى أيامه الخوالي بها وينشد:
وهل تعود ليال قد سلفن بها
ونحن لا نشتكي تنكيد ضلال
وهل يعود لها الدين الذي أنست
به وقد أيست من فتح وإبدال
هكذا كان يتذكر صباه وجزءا من شبابه في غرناطة ويبكي على حاله وحالها، ثم تعود به الذاكرة مرة أخرى ليعيد الكرة لقريحته الشعرية لنسج بعض القوافي التي تجسد حال المسلمين في غرناطة عندما حل النصارى بمرجها، ثم أخذوا في الزحف على أرجائها فقال:
فاستوطن المرج لا ينوي الرحيل ولا
يخشى المغيث بسهل أو بأجيال
والمسلمون من الأضغان قد ملئت
قلوبهم وأبوا تسديد إخلال
والحق مختلف والحمق مؤتلف
والكل منصرف عن نصر أبطال
وهم لديه كطير وهو ينتفه
والطير يرجو البقا مع كيد قتال
في فاس مدينة العلم والحضارة الإسلامية درس بجامع القرويين، ونال من الحفاوة ما لم ينله غيره من الأندلسيين النازحين إليها بعد السقوط الأخير، وظل كذلك، وقد حل بفاس وباء، وجوع، وغلاء، وطاعون، حتى فر بعض الناس منها، كما أن البعض قد أحال ما حل بفاس إلى أنه عقاب بسبب هؤلاء الأندلسيين القادمين، والذين ربما أن ثقافتهم ذات الطابع التحرري لا تتفق في بعض جوانبها مع ما كان سائدا في فاس مهد العلوم الشرعية، فلقي الأندلسيون كثيرا من الأذى من بعض السكان الأصليين، وأخذ التشاؤم وخوف العقوبة يكبر في القلوب، فما كان من بعض الأندلسيين إلا أن عادوا إلى مرابعهم وديارهم في الأندلس تحت الحكم النصراني راضين أن يكونوا في عداد المدجنين كما كان يطلق عليهم آنذاك، ومنهم من تنصر، وآخرون تنصرت سلالتهم فيما بعد، لكن كثيرين بقوا على إسلامهم حتى تم إجبار المدجنين على الدخول في النصرانية في الظاهر مع بقاء البعض على دينهم، ومن ثم طرد أولئك المتنصرين في الظاهر، في ظاهرة من أكبر مظاهر التطهير العرقي والديني على مر التاريخ.
دعونا نعود لابن الدقون، وهو يسمع ما حل بأهله في الأندلس وإجبارهم على التنصر قبل طردهم بسنين عديدة، فيناشد أهل فاس أن يتلطفوا بمن حل منهم بديارهم، وأن يرقوا لحالهم، لا سيما أنهم شعب منتج ذو كفاءة مهنية عالية، فيقول:
إخوانكم رفعوا أيدي الضراعة مع
كسـر القلوب فلا يلقوا بأخمـال
وقل لوال تلطف في مغارمهـم
يلطف بك الله إذ تـدعي بأجمال
هكذا كان الدقون، وهكذا كانت حال الأندلس والأندلسيين، وكذا كانت حال فاس، فيالها من عبرة تملأ القلوب حزنا، وأقول ما قال ابن الخطيب:
طامع في رحمة الله وما
خاب عبد طامع لم ييأس