الحياة ليست سهلة لأي شخص. في البداية تكون الحياة سهلة للكثير من الناس حيث يعتني بهم أهلهم، لكن حتى وقت الطفولة فلا مفر من التضحية، فيتعب الطفل في المدرسة، ومن ثم يتعب في الجامعة والوظيفة وغير ذلك، فلا بد من أن يقدم الإنسان شيئاً مقابل معيشته، لكن ما هي حدود ذلك؟
البعض يعمل ليعيش، فتكون الوظيفة مجرد باب رزق يعيش منه وينفق على نفسه وأهله، والبعض يضحّي كثيراً في عمله فيقضي فيه الساعات الطوال ويتنازل عن إجازات ويظل يحرق نفسه بالعمل حتى لا يكاد يرى أهله ويكبر صغيرهم ولم يهنأ -هذا المُبالِغ في التضحية للعمل- أن يقضي معهم كثيرَ وقت، وهكذا تتفاوت تضحيات الناس لمِهَنِهم، حسب القدرات والطموحات والأولويات وغير ذلك من العوامل، لكن إلى أي درجة يضحّي المرء؟ مهما ضحّى الموظف أو المدير أو العامل في سبيل مهنته فلن يبلغ أبداً ما بلغه «كليمنت» والذي ضرب رقماً قياسياً في التضحية للمهنة، وإن كان بلا تخطيط مُسبَق!
«كليمنت فانديغهام»، هذا الإسم ستتذكره مهنة المحاماة، رغم أن التاريخ يعرفه على أنه سياسي. من هذا الرجل ذو الاسم الغريب؟ وُلِد كليمنت عام 1820م، ودرس المحاماة لما نشأ، وشيئاً فشيئاً دخل عالم السياسة، وقاد أحد الأحزاب السياسية، حتى انضم إلى مجلس الشيوخ الأمريكي، وكانت حياته السياسية حافلة بالخصومات والمناظرات والخلافات؛ لأنه عاصر الحرب الأهلية الأمريكية وكان أقل تشدداً مع الأعداء -أي الولايات الأمريكية الجنوبية- ويدعو لاستخدام السلم معهم، مخالفاً بذلك سياسة الرئيس أبراهام لينكون، وأصدر أحد الزعماء العسكريين قراراً أنه لن يقبل أن يتعاطف أحد مع الأعداء، وقام كليمنت وألقى خطبةً نارية عارض فيها هذا القرار، فقبضوا عليه وحاكموه ونفوه إلى الجنوب بأمر الرئيس لينكون نفسه، وهكذا كانت حياته مليئة بالأحداث والمغامرات، لكن هذا كله ليس ما اشتهر به كليمنت، بل هو شيء آخر غريب.
لما انتهت الحرب الأهلية بانتصار الولايات الشمالية واصَلَ كليمنت حياته السياسية لكنه أيضاً أكمل عمله في المحاماة. ذات يوم حصلت مشاجرة قُتِل فيها رجل، وأتت الشرطة واعتقلوا خصمه وأحالوه للمحاكمة. أصرّ الرجل أنه بريء وأن القتيل قد أزهق روحه بنفسه لما سلَّ مسدسه وأطلق النار على نفسه بالخطأ لكن لم يصدّقه أحد، فاستعان هذا المُتَّهَم بكليمينت وطلب منه أن يدافع عنه، فقبل كليمينت هذه القضية، وأثناء المحاكمة كان كليمنت ينافح بحماس عن مُوَكِّلِه، حتى وصل لأهم نقطة والتي أراد فيها أن يثبت أن القتيل قد قتل نفسه بالخطأ، فأخذ كليمنت مسدساً يماثل المسدس الذي قتل المجني عليه، وأخذ يمثّل اللحظات الأخيرة في تلك المشاجرة، فوضع المسدس في جيبه، ثم سلَّ المسدّس بسرعة و...انطلق العيار الناري. انطلقت رصاصة من المسدس الذي مع كليمنت، وكان يظنه فارغاً إلا أنه أخطأ فكان المسدس محشواً بالرصاص، وأصابت الرصاصة كليمنت وقتلته، تماماً كما حصل مع القتيل في المشاجرة.
مات كليمنت، وأما مُوَكِّلِه فأطلقوا سراحه بعد أن تأكدوا من صحة كلامه وبعد أن أثبت كليمنت صدقه...على حساب حياته. وهذا قَطعاً نوع لا نشجعه من التضحية للمهنة سواءً بقصد أو بدون قصد!
Twitter: @i_alammar