غُمِرتْ المشاهدُ النقدية في الوطن العربي بطوفان من المذاهب والتيارات والظواهر: الإبداعية والنقدية.
حتى كِدْنا نقطع صلتنا بتراثنا. بل وجدنا من ينقم عليه،
ويراه معوقاً للآخذين بعصم المستجد. والمشهد النقدي سِيءَ من الموالين والمناوئين للتراث، على حد سواء. ذَلك أن الانكفاء على الذات، والاستغناء بما سلف انعزالٌ مُخلٌّ بالأهلية.
ولايقل عنه سوءاً استدبار التراث، وإقصاؤه. والخيرون من يَلِجُون سَمَّ الخياط، بحثاً عن أيَّةِ إضافة تُجَسِّرالفجوة بين التراث والمعاصرة.
فالحضارة الإنسانية فضاءٌ رحب، يَسْتوعب كُلَّ الحضارات. وآنفاً قلت، ولمَّا أزل مُصراً على القول: بأن كل الحضارات تتعالق مع ماسواها. فالحضارات يكمِّلُ بعضُها بعضاً. ويكفي استحضار ثلاث مقولات شرعية، لتكون مطمْئنة لاستقبال الآخر، والتفاعل معه.
المقولة الأولى: حديث: “إنما بُعِثتُ لأتَمم مكارم الأخلاق”.
والمقولة الثانية: حديث:- [الحق ضَالَّة المؤمن].
والمقولة الثالثة: وصْفُ الرسول صلى الله عليه وسلم الإسلام بأنه لبنةٌ في قصر منيف.
وإذ نختلف مع الموغلين في مقولة:- الإسلامُ مُحَصَّلَةُ إرث جاهلي، فإننا نستشعر استيعاب الإسلام للكثير من الحضارات القائم منها والحصيد.
هذه الإشارات اللاَّهِثَة تأكيدٌ على أهمية سَماع الآخر، والأخذ بأحسن ماعنده، فالحضارات الإنسانية لايُحْكَمُ بفسادها المطلق، ولا بخيريَّتِها المُطلقة، ومن ثم فلا مجال للاعتزال. وفي الوقت نفسه لامجال للذوبان في الآخَرِ، وطَمْس المعالم.
والمتوازنون هم أولئك الذين يُحْسنون التعامل مع مُسْتَجدَّات الحضارات الإنسانية. بحيث يَذُوبُ فيهم مايأخذون، ولا يذوبون فيه، ويتفاعلون معه بندية، ولا يَنْفعلون إزاءه، ويرحلون بالتراث، ولايرحلون إليه، ولما كان الحراكُ الأدبيُّ- بشقيه: الإبداعي، والنقدي- شطراً من اشكاليات التواصل مع الآخر، كان لزاماً على المقاربين لهذه الإشكالية، أن يحسنوا إدارة مايترتب على ذلك من أزمات، شَغَلَتْ المشاهِد، وأهْدرت قدراً من الجهد والوقت، دون التوصل إلى حلول توفيقية، تتفرغ في أجوائها النخبُ، لمزيد من التأصيل للمعارف، والتحرير للمسائل.
وتَحَفُّظُنا على فيوض المناكفات بين المحافظين والمجددين، والمجددين والحداثويين، لايحول دون العدل في الحكم، وتقصي الإضافات التي جادت بها جهود الخصوم وقرائحهم. فالاحيائيون استحضروا التراث، وأعادوا قراءته، ووطؤوا أكنافه، وجعلوه في متناول أيدي الدارسين: تحقيقاً، ودراسة.
والمعاصرون جَسَّروا الفجوات بين العربي الخالص، والغربي الخالص. وإيجاف التبعيين مِنْهم باقْلامهم والسنتهم على الأدب العربي أثار حميَّة الأدباء والنقاد الإحْيائيين، للدفاع عن حَوْزة الأدب واللغة، والنهوض بمشروع إحياء التراث، ليكون فيما بَعْد ظاهرةً عُنِيَ بها المستشرقون، الذين عرفوا قَدْره. لقد أصبح في متناول أيدينا تُراثٌ كاد يطويه النسيان، ومُسْتَجِدٌّ لو لم يَجْلِبُه المتَيَّمون به، لظل بعيد المنال.
ولا سيما أن لفيفاً من النقاد والدارسين لايجيدون لغاتٍ أخرى. واعتمادهم على الترجمة، يحملهم على التماس مخلَّفات هذا الصراع، ليُكْمِّلوا به نقص الترجمة، وتفاوت المترجمين.
ثم إن الصراع إكسير الحياة، فلا حياة بدون سُنَن التدافع، والتداول، وتبادل المواقع. وعلى الوجلين من هذا الاندلاق المَعْرفي، والاستفاضة للمستجد، أن يُثَبِّتوا أفْئدتَهم، فما في الأمر مستنكر، ولا مخيف.
وعلى ضوء ذلك تَمَنَّيْتُ أَنْ يَصْرف المعنيون شَطراً من الجهد والوقْت للتأصيل والتحرير، ليكون المشهدُ على بينةٍ من أمْره، فلا مجال للاعتزال، ولا قدرة على نفي الآخر. ولا سيما أن الكون أصبح قرية ذكية تداخلت فيها الأشياء إلى حد الخلطة المستحكمة.
والمتابعون لفيوض المستجد، عند غياب التأصيل والتحرير لايملكون التوازن، وإعطاء كلِّ ذي حَقٍّ حقه. فللتراث حَقُّ الرحيل به، لا الرحيل إليه، وللمستجد حقُّ الاكتشاف، والأخذ بأحسنه.
ومن يتهيب مقاربة المستجد، يَعِشْ أبد الدهر مُرْتهنا لماضيه، فيما يظل المستجد بين فِئتين: فئةٍ تذوب فيه، وتتنكر لماضيها، وفئةٍ تتخوف منه، وتنكفئ على نفسها. والخيرية فيمن يَخْفِق بجناحي التراث والمعاصرة. ولن يتحقق ذلك إلا بالتأصيل والتحرير الغائبين عن المشتغلين بالتراث والمعاصرة، وبخاصة النقاد بوصفهم القراء الحقيقيين للنص.
من هنا عَنَّ لي أن أخوض مع الخائضين في ظواهرَ شغلت المشاهِد، وألْهتْها عن حفظ التوازن، أملاً في أن نجد من يَرْحُبُ صَدْرُه للمستجد، ويُبقي على تراثه، ليحفظ التوازن، وتلك معادلة صعبة، لايؤتاها إلا ذوو العزمات، والأدباء والنقاد المتميزون هُم الذين يَمُدُّون بِسبَبٍ إلى التراث، وتَعْدو أعينُهم مُسْتشرفةً للمستقبل.
و[قراءة النص] من تلك الظواهر التي حَفَلَتْ بها المناهج الألسُنِيَّة. والقراءة عَتَبُةُ الافتتان، [وماتفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ماجائتهم البينة]، وما أختلف الناس إلا من بعد ما أقدموا على قراءة النصوص بطرائق متعددة. ولو ألممنا بنظريات المعرفة،لاسْتَبنَّا فتنة القراءة.
وأمام طوفان المناهج، لابُدَّ من الضوابط والقواعد والأصول، وهي عين التأصيل والتحرير، فلو أُصِّلَتْ المناهج، وحُرِّرت الآليات، ووحِّدت المصطلحات، وحُدِّدَت المفاهيم لما تفرق الأدباء والمفكرون، ولما تناسلت الملل والنحل من عباءة القراءة. ولَمَّا تزل مُحاولة الاحتواء لهذا التعدد قائمةً، وسبيلها التأصيل والتحرير.
وَلقد أشَرْتُ من قبل إلى تحولات مركز الكون النقدي، وقلت: إن السلطة المطلقة كانت للمنتج، فهو المُتحكِّم بالنص، وبالمتلقي، وما على المتلقي إلا القبول بمراد المنتج. هذه السلطة نشأ في ظِلِّها [المنهجُ التاريخي] الذي يَتَقَصَّى شخصية المنتج، وبيئته، وأحواله: النفْسية والاجتماعية، ويستشف من أنْساقه، ومن أجواء النص المراد.
فلم يكن النص، ولا المتلقي مُهِمَّين، ولا مُهيمنين، ولقد كانت لهيمنة المنتج آثارُ جانبية، تجاوزت تحرير المنهج التاريخي، إلى تأصيل مناهج أخرى، ذات صلةٍ بالمنتج، كـ[المنهج النفسي] الذي تبناه لفيف من النقاد أمثال [عباس محمود العقاد] و[المنهج الاجتماعي] الذي تبناه [طه حسين]. و[اللانْسُونِيَّة] التي تبناها [محمد مندور]، ولا عِبرة بفلتات الأقلام المواكبة لتلك المناهج، إذ جاءت محاولات فَرْدية، غيرُ واعية، كادت تُحَيِّد المُنتج قبل بروز المناهج الحديثة، التي أماتت المؤلف، وكأنها ضاقت ذرعاً بِتسلُّطه. والخطرات لاتَرْقى إلى مستوى النظريات، وإن أرهصت لها.
وحين جاءت [الألسنية] بكل مسمياتها، وتفريعاتها، وتناسل المصطلحات من عباءتها، وارتفع شأن اللغة، نُحيِّ المُنتجُ، وفصل عن نصه، بل حكم بموته، لتسقط سلطته. وأصبحت البِنْية اللغوية حجر الزاوية، وتتابَعَتِ المناهج النقْدية من [تفكيكية] إلى [تأويلية] إلى [تحويلية]، إلى [تداولية]، وظهرت مُصْطلحات تتعلق بالعلامات، والسياقات، والأنساق، وأصبح النَّصُّ سَيِّد الموقف، لا يساويه في العملية الأدبية شيء. فالعمل الإبداعي يُحَلَّلُ بوصفه لغة مَكوَّنةً مِن حروف، وكلمات، وجُمَلٍ، وعبارات، وأساليب، واسْتُدعْيت الصوائت والصوامت والشعرية والتداولية والتفاوضية، لتعزيز مكانة اللغة.
وأخيراً انتقلت السلطة إلى المتلقي، بحيث أصبح مبدعاً رديفاً، وظهر مصطلح “علم الدلالة”، وتناسلت من بعد آليات نعرف منها وننكر كـ[النقد الثقافي] على سبيل المثال.
ومن شاء أن يتناول الحركة النقدية، وتحولاتها، فلا بد أن يلم بالحركة النقدية في كل من [أوروبا] و [أمريكا] لأن نقادَهُما حَذَامِ النَّقْد، والقول ماقالوه. وذلك مكمن الخطأ، إذ يجب استنان منهجٍ، واتخاذ آليةٍ، تمتص أنساغ المشاهد كلها، فالتراث النقدي جدير بالحضور، وتقاسم السلطة مع المستجد.
فليس يَعيب مشاهدنا استيعابُ المستَجِدِّ ومبادراته، ولكن العَيْب ألا يكون للنَّقد العربي القديم حضورٌ فاعلٌ، ولا سيما أن له آلياتٍ دقيقةٍ اهْتمت بالبنية اللغوية. كـ[النحو] و[الصرف] و[البلاغة] فالأوْليان يهتمان بِصحة البناء، والثالث يهتم بجمالياته. فيما يأتي علم [العروض] و[القافية] مُهْتماً بالإيقاع الجميل. ومتى اتسعت مناهج النقد القديم للعناية بالبناء اللغوي، كان لزاماً على نقادنا أن يصتصحبوه، ليأخذ من النَّقْد الغَرْبي أحْسَنه.
على أن المذاهب النقدية كـ[التفكيكية] لاَتخلو من جُذُور فَلْسفيَّة، ليس هذا مجالُ استجلائها، ويقيني أن الظروف التي أنشأت مصطلح [التأويل] في التراث قريبةٌ من ظروف نشأة مصطلح [التفكيك] في الغرب.
وليس مهما لدى الناقد العربي تَلَبُّس أَيٍّ مذهب نقدي بنوازع فكرية، أو فلسفية، متى كان النَّصُّ المستهدف مُنْتَجاً بَشرياً. فالخطورة في اقتراف خطيئة تفكيك النص القرآني، بوصفه نصاً مقدساً، ذا بُعْدٍ عَقَدِيٍّ، أو تشريعي. ولقد اقترف أمثال [أركون] و[نصر حامد أبوزيد] خطيئة التعامل مع النص القرآني من خلال مناهج الألسنية وآلياتها. على أنّ المذاهب الكلامية كـ[المعتزلة] اقترفوا ذات الخطيئة، وذلك حين توسلوا بالبلاغة لصرف النص القرآني، عن دلالته المخالفة لمذهبهم.
ويدخل في التأصيل والتحرير تَحْديد المجال، وإدراك المحضور والمباح، وما من عالم تفسير سلفي إلا هو على علم بهذا التحايل المذْهبي، ولقد عَوَّل البعض على [المجاز]و [التأويل] الأمر الذي حَمَل المتشددين من السَّلفيين على التَّصَدي لأولئك. حتى لقد نُفِي المجازُ عن اللغة، فَضْلاً عن نفيه عن القرآن.
والحقيقة أن [المجاز] و[التأويل] ظاهرتان لغويتان مَوْجُودتان في الشعر العربي، والقرآن الكريم على حد سواء. واستعمال المُبْطلين لهما لتحريف الكلم عن مواضعه، لايُخَوِّلُنا نَفْيهما عن اللغة، ولا عن مُسْتَعْمِلها.
والقرآن الكريم نزل بلسان عربي مبين، ومن كمال اللسان العربي أن يتسع للمجاز والتأويل، لانهما من ظواهر اللغة، وجمالياتها، و ثرائها الدلالي، ومن عوَّل عليهما لتوصيل باطله، يؤخذ بجريرته.
أما [التفويض] فليس وجهاً بلاغياً، ولا يمت إلى اللغة بصلة، ولا يَسْتَنبْطنه النص الشرعي، ولا الإبداعي، وإنما هو نوع من التوقف، وتعليق الدلالة، ثم إنه لايمارس تحقيقه عبر الآلية النقدية.
وحين نَقْطَع بأن النَّقد العربي الحديث مُتَلَبُّسٌ بالمستجد النقدي الغَرْبي نكون مضطرين إلى التَّعرف على نظريات ذلك النَّقْد المُهيْمن. ولعدم انضباط الترجمة، فقد تَحَوَّل المصطلحُ النقديُّ إلى اشكالية معقدة، وقراءة كتاب [اشكالية المصطلح في الخطاب النَّقْدي العربي الجديد] للدكتور [يوسف دغليس] يَكْشف عن أبعاد الأزمة التي لم نُحْسِن إدارتها.
فلو نظرنا إلى حقول المصطلحات لوجدنا فيها اختلافاً كثيراً، فالحقل [البنيوي] تَتَنازعه اللغة والموضوع. والحقل [الأسلوبي] يتنازعه التركيب والانزياح، والأسلوبية بكل دقائقها.
والحقل [السِّيميائي] تتنازعه العلاقات، والتشاكل، والشعريَّة، ومفاهيمها الهلامية.
والحقْل [التفكيكي] يتنازعه التأويل بمفاهيمه العربية والغَرْبية والتناص.
وهكذا نجد أن دائرة الإشكاليات تنداح، كلَّما تلقَّفَ أدِيْبُ أو ناقد مُصْطلحاً مترجماً بِعَّدِةِ صِيغ، وبِعِدَّة مفاهيم.
والعالم العربي يتخبط في عمليات الترجمة، ولكل مُتَرْجمٍ طرائقه في صياغة المصطلح، ومَفْهُومه للمقاصد.
يتبع .....