هناك - مع الأسف - من يتهم علماءنا ببعد المسافة بينهم وبين مجتمعهم، وأنهم يقدمون الدين في صورة نظرية، لا ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالواقع المعاش، بل ويعمدون إلى الانشغال بآراء الفقهاء السابقين، دون الالتفات إلى الواقع المعاش، أو مراعاة بين الثوابت والمتغيرات. ومثل هذا الاتهام يلزم منه ترجيح المفسدة على المصلحة، وبالتالي تطبيق الأحكام على وجه غير صحيح، بسبب تناقض المناطات بزعمهم التي سببت الفوضى، وخلطت المفاهيم.
قبل أيام، كتب الدكتور محمد السعيدي حول ما طرحه الشيخ يوسف القرضاوي، بقوله: “أقدِّم هذا السرد مساهمة في رفع الظلم عن علمائنا، الذين لا زالت آلة الإعلام تصفهم بما وصفهم به العلامة القرضاوي، من عدم الفقه بالسياسة، والبعد عن إدراك الواقع، مع أن المتأمل للأحداث ومجرياتها بإنصاف، سيجد العكس تماماً، ولو أن الشيخ القرضاوي وغيره، كانوا أكثر إنصافاً؛ لوصفوهم بأصحاب رأي مخالف لتوجهاتهم، أما أن ينزعوا عنهم صفة الفقه بالسياسة، والفهم للواقع، فهذا منتهى الحيف الذي أٌجل الشيخ -وفقه الله للخير- عن الوقوع فيه”.
يثبت الواقع أن لعلمائنا متابعات، ومشاركات متصلة بواقعهم والأوضاع الراهنة، وذلك من خلال نوافذهم العقلية على هدي وبصيرة. فانصرفت إلى هذا الفقه، أي: “فقه الواقع” هممهم، وتعاونت عليه جهودهم، وتكاملت فيه تخصصاتهم، فراعوا هذا الجانب، وبحثوا عن دواء لكل داء، ولكل علة عما يزيلها ويدفعها. كما تصدى علماء هذه البلاد للحكم على الواقع، والخوض في غماره، بعد أن أدركوا أسراره، وعلموا أصوله وفروعه؛ لمراجعة حال الأمة، والخروج بها من أزمتها، وما ذاك إلا لسعة اطلاعهم، وقدرتهم على المتابعة، والبحث في كل جديد، الذي هو سنة ماضية، وضرورة شرعية.
ثم إن معرفة علمائنا للواقع، أدى إلى معرفتهم بالمتوقع؛ لأن المتوقع هو في حقيقته مآل للواقع، كونه معتبراً شرعاً، بل لا تصح الفتوى إلا به، حتى وإن تغيرت بسبب تغير الأزمنة والأمكنة، والأحوال، والنيات، والعوائد. فمعايشة الواقع تأثراً أو تأثيراً، يعد من أبرز المصادر العلمية، وهو ما أعبر عنه: بالتفاعل الإيجابي مع الأحداث، والجمع بين المقاصد، والأحكام، والذي لا يعرف قدره إلا كل من له مساس بمسائل الفتوى العلمية، والشرعية، والفكرية.
إن مواكبة مجريات الأحداث، ومستجدات الوقائع، دليل على أن الواقع البشري متحرك، وليس ثابتاً. وبنظرة سريعة إلى منهج علمائنا الكبار، كسماحة الشيخ عبد العزيز بن باز - رحمه الله - يدرك على سبيل المثال من خلال تأمل فتاواه، ورسائله إلى مختلف رؤساء الدول، كيف أنه كان فقيهاً بواقعه، ورؤية مستقبله، وتوقع نتائجه، وتجنب مزالقه، كل ذلك في إطار ضبط العلمية، والقضاء على الأفكار الشاذة، والتي تنطلق من تجاهل “فقه الواقع”.
drsasq@gmail.comباحث في السياسة الشرعية