لم يكن المتنبي شاعراً ينثر كلماته على صفحات النسيان، بل كان ملهماً عبقرياً لفصاحة اللغة العربية وبلاغتها، كان يحاول أن يحفر بأبياته ألف معنى ومعنى في ذاكرة العقل العربي، لكن الإنسان العربي على مر العصور تعامل معه على أنه أحد الشعراء الذين يتبعهم الغاوون، وأن أشعاره كانت صدى لأنانيته ونرجسيته الطاغية، لكن الحقيقة أنه كان مفكراً وشاعراً عبقرياً بكل ما تعنيه الكلمة، ولو لم يقل في المنطق إلا بيته الشهير، « وليس يصح في الإفهام شيء، إذا احتاج النهار إلى دليل «، لكفاه أن يكون أحد أهم أعلام الفكر العربي في مختلف العصور..، وقد كان من أهم أسباب فشل التنمية العربية في العصر الحديث أنهم يصرون على الإخفاقات رغم وضوح الدليل وضوح الشمس في رابعة النهار.
وهل، بعد العديد من الخطط التنموية والإستراتيجية،.. نحتاج إلى دليل على إخفاق تجربة المؤسسة العامة للتدريب المهني، والتي رغم الجهود المبذولة لم تنجح خلال الأربعين عاماً الماضية في إيجاد بيئة مهنية في المجتمع، وهل الاستعانة من جديد بالخبرات الأجنبية من (أمريكا وكندا وأوروبا وأستراليا ونيوزيلاند) ستعالج الخلل برغم من فشل التجارب السابقة، وهل نحتاج إلى دليل على عدم قدرة إستراتيجيات التخطيط الحالية في معالجة البطالة، بعد أن أثبتت النتائج أن القطاع الخاص لا يستطيع حل المشكلة لأنه غير حقيقي، ويعيش على جهد وعرق الأجنبي، وهل نحتاج إلى دليل على أن الإستراتيجيات غير الناجحة تحتاج بعد فشلها إلى مراجعة، وربما إلى تغيير، ومن ثم الاستفادة من خبرات الدول التي نجحت في تجارب تأسيس الشركات الصناعية العملاقة والعابرة للقارات مثل كوريا الجنوبية.
وهل نحتاج إلى دليل على إخفاق تجربة وزارة التخطيط في إيجاد البدائل لاقتصاد المصدر الواحد، وهل نحتاج إلى أدلة أكثر من ثلاثة عقود من الإخفاق للوصول لقناعة أن الإداري التقليدي لا يمكن أن يحقق الإنجاز، وهل نحتاج إلى دليل على أن الإدارة المركزية أصبحت عائقاً في مملكة مترامية الأطراف، بعد أن أثبتت تجارب الوزرات الخدمية ذلك، ويأتي على رأس القائمة تجارب وزارتي الصحة والبلديات، فقد كانت مركزية القرار و سياسة الإدارة من بعد أحد أهم الأسباب في قصور بعض خدماتها إلى درجة الكارثة، كما حدث في كوارث السيول والأمراض الوبائية في بعض المناطق، وأن لا حل إلا بإعطاء المناطق مسؤولية إدارة خدماتها ثم محاسبة محافظها على التقصير إن حدث.
وهل نحتاج إلى دليل على أن إستراتيجيات الأمن الفكري لم تنجح في كثير من التجارب التاريخية، وأنها دائما ما تؤدي إلى نتائج عكسية، وقد تم بالفعل إستثمار المليارات في نشر المنهج الصحيح في العقود الماضية، وكانت النتيجة صعود ظاهرة الصحوة، وإنشقاق القاعدة، وتمرد الفكر المطيع على سيده، لذلك عادة لا تنجح إستراتيجيات المؤلفة عقولهم، أو وسيلة اللقاح الفكري المبكر للنشء الجديد، أو نظرية إحكام السياج العقدي في منع بروز الظواهر الجديدة للفكر الإنساني، لأن العقل البشري في طبعه التمرد، وإن ظهر أمام الجميع في كثير من الأحيان منقاداً وطائعاً للأوامر.
وهل نحتاج إلى دليل على تفشي ظاهرة العنصرية في المجتمع بعد أن أصبحت بعض الفئات في المجتمع تحت طائلة التذكير بأصولها خارج الوطن، وهل نحتاج إلى دليل إلى أن الخطاب الديني ونظريات الأمن العقدي لم تنجح في تهذيب سلوك الأفراد في المجتمع في هذا الاتجاه، بل إن عدم احترام التعاليم والوعظ العام أصبح الأكثر شيوعاً بين الأجيال الجديدة، وهل نحتاج إلى دليل على أن بروز ظاهرة العنصرية سيفتح الأبواب أمام دخول الوطن إلى عصر الحقوق الفردية والإنسانية لمختلف الفئات، وأن لا بديل من تأسيس قوانين مدنية صارمة تضمن تلك الحقوق.
وهل نحتاج إلى دليل على أننا نعيش في القرن الواحد والعشرين، الذي تتحكم ظواهر التواصل الاجتماعي في كثير من فعالياته، وأنها، بعد سنوات قليلة من الانتشار، أصبحت المصدر الإعلامي الأهم في نشر أخبار المجتمع، والسباقة إلى بدء فعاليات المجتمع المدني في عالم الفضاء، وهل نحتاج إلى دليل على أن تصادم الحضارات المزعوم تحول إلى تواصل وحوار دائم سيكون من نتائجه انهيار الجدران العالية وتقارب القيم والأخلاق الإنسانية، ثم الإنتقال إلى مرحلة فكرية مختلفة، سيكون من أهم علاماتها الوصول إلى الوعي المتكامل بما يحصل في الداخل والخارج..
وهل بعد كل هذا يحتاج النهار إلى دليل؟، رحمك أيها المتنبي..، فقد تكون كلماتك أسمعت من به صمم، لكنها لم تكن عند أصحاء السمع إلا مجرد كلمات يتزين بها المسؤولون في أحاديثهم الاجتماعية.