طبيب وفلكي من بلاد حرّان ومن الصابئة، قال عنه ابن كثير في تاريخه في حوادث عام 288هـ الفيلسوف الحرّاني صاحب التصانيف، من جملتها أنه حرر كتاب إقليدس، الذي عرّبه حنين بن إسحاق العبادي،
وكان أصله صوفياً فترك ذلك واشتغل بعلم الأوائل، فقلّ منه مرتبة عند أهله، ثم صار إلى بغداد فعظم شأنه بها، وكان يدخل مع المنجّمين على الخليفة، وهو باقٍ على دين الصابئة، وحفيده ثابت بن سنان له تاريخ أجاد فيه وأحسن وكان بليغاً ماهراً حاذقاً بالغاً، وعمه إبراهيم بن ثابت بن قرّة كان طبيباً عارفاً أيضاً.
جاء عن الزركلي أنه ولد عام 221هـ بين دجلة والفرات بأرض العراق، وفيها نشأ وهو طبيب حاذق وفيلسوف، حدثَتْ له مع أهل مذهبه الصّابئة حادثة أنكروها عليه في المذهب، فحرّم عليه رئيسهم دخول الهيكل فخرج من حرّان إلى بغداد، فاشتغل بالفلسفة والطب فبرع، واتصل بالمعتضد العباسيّ، فكانت له عنده منزلة رفيعة وصنّف نحو 150 كتاباً منها: الذخيرة في علم الطب مطبوع، والمباني الهندسية رسالة، والشكل القطاع رسالة، ومساحة المخروط الذي يسمى الكافي في رسالة أيضاً، وآلات الساعات في المزوال وتركيب الأفلاك، ورسالة في الموسيقى وطبائع الكواكب، والهيئة، وعلة الكسوف والخسوف، والرصد وتصحيح مسائل الجبر بالبراهين الهندسية ومراتب العلوم وغيرها وأكبر كتاب الهندسة الذي يبلغ أكثر من ألف صفحة.
وتوفي في بغداد عام 288هـ وقد خدم العلم في الدولة العباسية، وقد ذكر ابن جرير الطبري في تاريخه أن هاران عم إبراهيم الخليل عليه السلام مر حرّان هذه فسميّت باسمه فقيل هاران ثم إنها عرّبت فقيل: حران وهاران المذكورة، وأبو سارة زوجة إبراهيم عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام.
وقال الجوهري في الصحاح: وحرّان اسم بلد، والنسبة إليه قرة تأتي على غير قياس، والقياس حرّاني على ما هو عليه العامة.. ويرى ابن خلّكان: أن إبراهيم بن ثابت بلغ مرتبة أبيه بالفضل، وكان من حذّاق الأطباء، ومقدّم في أهل زمانه، في صناعة الطب، وحفيده ثابت بن سنان بن ثابت كان طبيباً عالماً نبيلاً يقرأ عليه كتب بقراط وجالينوس، وكان فكاكاً للمعاني، وكان قد ملك حب ثابت في نظرته في الطب والفلسفة والهندسة وجميع الصناعات الرياضية.. وقد اعتبر الشهرستاني في كتابه الملل والنحل أن في المتأخرين من فلاسفة الإسلام، أبو بكر ثابت بن قرّة والشاعر أبو تمّام وحنين بن إسحاق وغيرهم ممن ذكر.
وجاء في كتاب حكماء الإسلام للبيهقي: أن ثابت بن قرّة كان حكيماً كاملاً، في أجزاء علوم الحكمة ويعني بها الطب، وهو جد محمد بن جابر بن سنان صاحب الرصد، وكان المعتضد يكرمه، ومن إكرامه له أن المعتضد طاف معه في بستان له، ويده على يد ثابت، فانتزع يده بغتة من يد ثابت، ففزع من ذلك، فقال له المعتضد: يا ثابت لقد أخطأت حين وضعت يدي على يدك وسهوت فإن العلم يعلو ولا يُعلى عليه.
فهذه غاية الإكرام له من المعتضد، وهذا يدل أيضاً على تواضع خلفاء بني العباس وتقديرهم للعلم وأهله. ثم قال البيهقي: ومما نُقل عنه قوله: ليس شيء أضر بالشيخ، من أن يكون له طبّاخ حاذق، وامرأة حسناء لأنه يكثر من الطعام فيسقم، ومن النكاح فيهرم، وكتابه الذخيرة نادر.
وقد ارتبط ثابت بأحد مشاهير أمراء الأتراك زمن العباسيين واسمه حكم، وكان مريضاً فصار يعالجه فقال له ثابت: حاجتي إلى الأمير أن يعنّي على حفظ صحته بشيئين وهما: ترك الأكل على السّكر والتمتع بالحمّام.
وجاء في دائرة المعارف الإسلامية: أن ثابت بن قرّة: عالم بالرياضة والطبيعة وفيلسوف ومن أعظم من رقوا بعلوم العرب في القرن الثالث الهجري، انحدر من بيت عريق، أنبت طائفة كبيرة من العلماء، وقد أوقعته آراؤه الفلسفية الحرة في خصام مع الوثنيين من أهل بلده، فأحضر إلى القاضي، وحُمل على إنكار هذه الآراء المارقة وخشي ثابت أن يشتد قومه في إعفائه ففر إلى قرية “كفرتوما” بالقرب من دارا، ويقال إنه لقي في رحلته إلى بغداد محمد بن موسى بن شاكر، وأن محمداً عرّف به أهل البصرة، وعلوم الرياضة، فاصطحبه إلى بغداد ليقدمه للخليفة المعتضد، وكان هذا أول معرفته به.
أما الصفدي فقال في الوافي بالوفيات: لم يكن لثابت بن قرة نظير في قوته بالطب، وله أرصاد حسان للشمس ببغداد، وقد رثاه يحيى بن علم المنجّم لما مات بقصيدة وكأن بينهما مودة أكيدة.
وكان ثابت فيلسوفا وله يد طويلة في الحساب، وإليه المنتهى في علوم الأوائل، وكان بارعاً في الهندسة والهيئة ونال رتبة عالية عند المعتضد وأقطعه ضياعاً، وكان يجلس عنده والوزير قائم.
وذكر صاحب كتاب معجم المؤلفين أن من كتبه إبطال الحركة في فلك البروج ورسالة في السبب الذي من أجله جُعلت مياه البحار مالحة، وتحرير كتاب المفروضات. لكن الذهبي في كتابه سير أعلام النبلاء اعتبره:
هو الوحيد ممن ترجم له، والذي أبان أنه وابنه إبراهيم الطبيب المشهور، وحفيده ثابت بن سنان الطبيب. صاحب التاريخ المشهور كلهم على ضلالهم ولم يسلموا، وأن لهم عقباً صابئة.
فهو يقول عندما مر بذكره: ثابت بن قرّة الصابئ الشقي، الحراني فيلسوف عصره. كان صيرفياً فصحب ابن شاكر، وكان يتوقد ذكاء، فبرع في علم الأوائل، وصار نديم المعتضد، فكان يجلس مع الخليفة ووزيره واقفا، ونال من الرئاسة والأموال فنوناً.
أما ابن أصيعبة فقال: لم يكن في زمانه من يماثله، في الطب وجميع الفلسفة وتصانيفه فائقة، أقطعه المعتضد ضياعاً جليلة ومن تلامذته عيسى بن أسيد النصراني المشهور.
ثم قال الذهبي: قلت كان عجباً في الرياضة إليه المنتهى في ذلك، وكان ابنه إبراهيم رأسا في الطب، وكذلك حفيده ثابت بن سنان الطبيب صاحب التاريخ المشهور ماتوا على ضلالهم، ولهم عقب صابئة، فابن قرة هو أصل رئاسة الصابئة المتجددة بالعراق، فتنبه للأمر، مات سنة 288هـ.
أما النديم في الفهرست فقد جاء به في كتابه عدة مرات، وترجم له في الفن الثاني من المقالة السابعة، وقال عنه: أصل رئاسة الصابئة في هذه البلاد ويحضّره الخلفاء، ثابت بن قرّة، ثم ثبتت أحوالهم وعلت مراتبهم، وبرعوا ثم ذكر مجموعة كبيرة من كتبه منها: كتاب الأهلة، ورسالة في سُنة الشمس، وكتاب في الحصا المتولّد في المثانة وكتاب وجع المفاصل والنقرس، ورسالته في البياض الذي يظهر في البدن ورسالته في الجدري والحصبة، ثم ذكر مجموعة من ذريته وتلاميذه، وعرف بهم وبجهودهم العلمية، فمنهم النصراني ومنهم اليهودي ومنهم الصابئ وقد ذكر من تلاميذه ابنه سنان بن ثابت، وقال عنه: إنه مات مسلماً.
وكان لثابت المحسوب على العرب معرفة جيدة بعلماء اليونان، حتى إن بعض الباحثين اعتبر أصله يونانياً، ولما سُئل عن البقراطيين كم عددهم لأن بعضهم لا يعرف إلا بقراطا واحدا، قال ثابت إنهم أربعة من نسل اسقلبيوس وذكر أسماء آبائهم، وما بين كل بقراط عن بقراط الثاني من الأجداد، وقال: إن أول من كتب بقراط الأول، وتحدث عن كتب كل منهم، ومكانته العلمية، حتى إن اسقلبيوس جدهم كان عدد تلاميذه في جميع أقاليم الأرض 12.000 اثني عشر ألف تلميذ، ويذكر أن علم الطب تقلّص عندهم فارتفع قدره عند العرب في بغداد وبلاد الشام ثم بعد ذلك في الأندلس.
فثابت بن قرة كان عربي المولد والنشأة لأن العراق وأرض السواد كانت عربية، ثم مركزا للدولة العباسية وعربي الثقافة والعلم، وقد رصدت كتب الموسوعات والتراجم اسمه ضمن علماء العرب، وحضارة الإسلام إلا أنه لم يكن مسلماً، ومات على ضلالته كما قال الذهبي، وألمح إلى أنه بقي على مذهب الصابئة. والصابئة كما قال ابن كثير في تاريخه، ويراه بعض العلماء هم يعطون حكم أهل الكتاب، كما حقق هذا الخليفة العباسي المأمون لأنه جاء اسمهم مقروناً بأهل الكتاب: اليهود والنصارى في القرآن الكريم.
إذ إن الله سبحانه قد بعث محمداً -صلى الله عليه وسلم- بالرسالة وجاء الخير للعرب، بها فحوّلتهم من أمة جاهلة ووثنية إلى أمة تسترشد بوحي الله الذي بعثه الله رحمة للعالمين، وبعثه للناس كافة تحت قيادة أمينة، فانطلقت الجحافل شرقاً وغرباً لنشر دين الله بنية صادقة، فاتسعت رقعة الإسلام، وخضعت أمم كثيرة لداعي الهدى، وتهاوت حضارتا الروم والفرس تحت راية الجهاد، وكانت تلك المسيرة، شعارها الأول إخلاص العبادة لله، وعدم الإشراك في العبادة.
وقد استفادت الأمم المغلوبة من حضارة الإسلام وتعاليم الشرع، وأفادت بموروثاتها التي لا تتنافى مع تعاليم الإسلام، وبهذا الامتزاج أفادت الأمم المغلوبة المجتمع الإسلامي بما عندهم من علوم كالطب والهندسة والفلك والكيمياء، فامتزجت الحضارات والعلوم، وصهرت تعاليم الإسلام تلك العلوم، فلبست ثوباً إسلامياً، في المغزى والهدف، ومن عباقرة الأمم خرج جيل إسلامي أضاء سنا علمهم المعمور من الأرض، ومن هؤلاء عائلة ثابت بن قرة، وإن كان بعضهم لم يدخلوا ظلال خيمة الإسلام، لكنهم لم يحاربوا ثقافته، بل استفادوا وأفادوا، ودار الحكمة التي أنشأها المأمون في بغداد وآثارها خير شاهد على ذلك، وأخبار ثابت بن قرة كثيرة في المصادر العربية.
وخير كلمة في هذا ما يروى عن سفيان الثوري، وبعضهم ينسبها لابن عيينة وهي: هم رجال ونحن رجال، ولهم عقول ولنا عقول، ولدينا مصدر يزكّي عملنا، وهو كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-.
mshuwaier@hotmail.com