اللغة العربية لغة غنية، زاخرة بالمعاني، قابلة لاستيعاب الحضارة الحديثة بما فيها من مفردات جديدة، فلا شيء يستعصي أن تستوعبه، أو يستحيل عليها أن تحويه، فهي لغة الاشتقاق التي ليس بإمكان معظم اللغات إن لم يكن جميعها أن يكون لديها ما لدى اللغة العربية من قدرة فائقة على ذلك الاشتقاق العجيب إضافة إلى كثرة مترادفاتها، وإن كان البعض لا يرى أن هناك ترادفاً في اللغة العربية وإنما لكل كلمة معنى خاصاً بها، يختلف عما نظنه مرادفاً لها، إلاّ أن هناك من اقتصر عدم وجود المرادفات على القرآن الكريم، لكن الخلاف أنها لغة مرنة قابلة للتوسع في المفردات والمدلولات اللفظية، ولكن ذلك يحتاج إلى جهد أكبر من علماء اللغة، والمثقفين الذين يمكنهم أن يحملوا ما يصل إليه علماء اللغة ويترجمون تلك المفردات في كتاباتهم وأقوالهم، عبر منابرهم المتعددة لا سيما في عصرنا الحاضر.
ولعل من نافلة القول إن أذكر مثالاً نقله أبو منصور في كتاب “فقه اللغة” في وصف الشعر، حتى يمكن للقارئ الكريم التعرف على ذلك التدرج الكبير في وصف الشعر وهكذا في كثير من الأشياء الملموسة والمحسوسة، فيقال: شَعْر جِفًال، إذا كان كثيراً. ووجْفُ، إذا كان متصلاً. وكث، إذا كان كثيفا ومجتمع، ومُعْلَنكك إذا زادت كثافته. ومُسدر، إذا كان منبسطاً. وسبط، إذا كان مسترسلاً. ورَجْلٌ، إذا كان بين السبْطِ والجَعد. وسَخام، إذا كان حسناً لينا. ومُغْدَوْدِن، إذا كان طويلاً ناعماً. وقال آخر. وجَثل، إذا كان ضخما غليظا. وأثْيثُ، إذا كان كثيرا ملثفا، وواردُ، إذا كان طويلا مسترسلا.
وقد أورد أبو علي في كتابه “الأمالي، لأبي بكر بن النطاح:
بيضاء تسحب من قيام شعرها
وتغيب فيه وهو وجف أسحم
فكأنها فيه نهار مشرق
وكأنه ليل عليها مظلم
ولعلنا نذكر بهذه المناسبة قصة المعتمد بن عباد الأندلسي مع جارته، والشاعر النحلي كما أوردها ابن بسام في الذخيرة حيث قال: ومن نوادر الآفاق الحلوة المساق، الغريبة الاتفاق، خبر النحلي مع المعتمد بن عباد، وذلك أنه مشت بين يديه يوماً بعض نسائه في غلالة لا يكاد يفرق بينها وبين جسمها، وذوائب تخفي آيات الشمس في مدلهمّها، فسكب عليها ماء وردٍ كان بين يديه، فامتزج الجميع ليناً واسترسالاً، وتشابه طيبا وجمالا، وأدركت المعتمد أريحية الطرب، ومال بعطفه راح الأدب، فقال:
وهويتُ سالبة النفوس غريرة
تختال بين أسنة وفواتر
ثم تعذر عليه المقال وانشغل عن تلك الحال. فقال لبعض الخدم القائمين على رأسه: سِرْ إلى النحلي، وخذه بإجازة هذا البيت، ولا تفارقه حتى يفرغ منه. فأضاف النحلي لأول وقوع الرقعة بين يديه هذين البيتين:
راقتْ محاسنُها ورق أديمها
فتكاد تبصُرُ باطناً من ظاهر
ينْدي بماء الورد مُسبل شعرها
كالطل يسقط من جناح الطائر
والشيء بالشيء يذكر، فقد كانت هناك أراء تحوم حول الأرقام المستخدمة في المشرق العربي، والتي يطلق عليها الأرقام الهندية، بينما يطلق على تلك المستخدمة في المغرب العربي، وكذلك سائر بلاد العالم تقريباً الحروف العربية، فقد وثق الأستاذ القدير الدكتور عبد الهادي التازي، عضو الأكاديمية المغربية وعميد أعضاء مجمع اللغة العربية بالقاهرة والسفير السابق، رأيه في كون الأرقام العربية أولى بأن يتم تبنيها في المشرق، مستدلا بوثيقة الرياضي المغربي ابن الياسمين المراكشي الذي تعود مخطوطته إلى القرن السادس الهجري الموافق لثاني عشر الميلادي، والتي تضمنت أرقاماً عربية كما هي الحال في معظم أقطار العالم، وكانت سائدة في المغرب العربي وربما في العالم العربي أجمع منذ القرن الثالث الهجري، أي التاسع الميلادي في عهد الدولة الإدريسية في المغرب، ومن ذلك انطلق هذا الرسم للأرقام العربية إلى أوروبا من خلال البابا جيربرت الذي تعلم اللغة العربية وأرقامها ونقلها إلى أوروبا، ثم دخل أوربا مرة أخرى في القرن السادس الهجري الموافق الثاني عشر الميلادي على يد ليوناردو دافنشي الذي زار بلاد العرب، واستفاد من علمهم بعد أن تعلم لغتهم، ونقل معه الأرقام بما فيها الصفر الذي سهل الكثير من المسائل الحسابية والذي أنشأه العرب، وكان نقل الصفر من فاس إلى إيطاليا حدثا كبيراً في عالم الرياضيات.
لعل الأيام تكون حبلى برجال ينقلون علومهم إلى العالم بدلاً من أولئك الذين يسيئون للإسلام وبلاد العرب بتصرفاتهم الغريبة العجيبة.