زرته رجل في الثمانين من عمره، داهمته الأمراض، وهن عظمه، واشتعل الرأس منه شيبا، وجهه الحنطي الذي كان مترفا، لم يعد مترفا، وحيدا كسنبلة، دقيق كنبتة صحراوية صغيرة ذابلة،

حزين حتى لكأنه تجاوز الحزن نفسه، قال لي والكلمات تغادر فمه بصعوبة، لقد غفت على وسادتي أضغاث الأحلام، وحيد إلا من حزني ووسادتي، اللذة في الحياة عندي تجاوزها الزمن، ما عادت الحياة عندي هي الحياة، صار طعمها مراً، تركت الفرح والبهجة بالحياة هناك مع أسبالي في الزاوية المظلمة، الأمراض اغتصبتني وسرقت مني النظارة والبهاء، حتى الناس من حولي غفت ضمائرهم ونامت، لم يعودوا كما كانوا، مشاعرهم تهالكت، صارت مثل بقايا خردة، انسكبت مثل إبريق الشاي، لقد ضاجعني الألم مثل أحزمة ضوئية آتية من بعيد، سنيين عمري الطويلة شاهدة لأحداث ماتت في السدم البعيدة، استهلك جسدي الحزن والضيم والأسى، استثمرني ألم الأمراض، فعلقتني كأضحية العيد، سلخت جلدي، نزعت من جسدي قطع لحم طرية، هجر الناس لي أيضا طبخني في محافل أنانيتهم المفرطة، بعد أن غفوا عني منتفخي البطون، لقد تركوني معلقا وحزني يسيل، طرقت بابي سنين العذاب والخوف والألم، الأيادي لم تعد تمتد إلي لتنتشلني من عذاب الوحدة وعذاب المرض، الذكريات تنزاح وتنضب، الشوق للأشياء لم يعد، لقد جف ونضب، براكين الحزن استيقظت بقوة بعد خمول طويل، لقد دفعت في حياتي الأثمان باهظة، لكن الستائر ستسدل على مسرح حياتي، البيت الذي كنت أملأه بالضجيج أصبح فارغاً، الكل انزاح بعيدا عني، الوجوه أصبحت تشرق لي بابتسامات السخرية وأنا الحزين الوحيد وسط همومي الثقيلة، لقد سحقتني الأمراض، أنا الآن صرت آخر المتهورين في عالم الجد والهزل، آخر الضعفاء في عالم الأقوياء، منخورة هي العظام، هشة، في مرضي أتمسك بأوهامي، لم أعد أفرق بين الوهم والحقيقة، أنا المضطجع على أرائك تنجدها لي الوحدة، مقهور أنا، متعب أنا، صرت مثل ركام ضعيف، لعبت بي الحياة كيفما تشاء، وحيداً أنا، وسادتي متربة لا أثر فيها لشعيرات جدائل، ولتضوع لروائح الشوق، ها أنا أتمرغ في وحل الوحدة والحزن والمرض، أتوكأ على عصاي التي لازمتني سنين طوال، طفل أنا تكسرت لعبته, تناثرت حتى صارت ولا شيء، أغفو على وسادتي بلا لذة ولا هناء، شفاهي يبست، وحلقي أصبح بلا ريق، سأموت ذات يوم، وستندثر رؤاي، ستنضب مياهي في حقول جسدي، فلا تفاح ولا خوخ ولا رمان، أرضي ستصبح جدباء، رمالها ملتهبة، ورياحها حارة، رمقني بعدها بنظرة طويلة ذابلة، كن معي، لا تتركني للوحدة تنهشني، حادثني، قل لي أي شيء، هي أيام وربما أغادر، ثم وصيتك أن مت، فأنا وحيد، ما عندي أحداً، كفننيجيداً، أحفر لي القبر، ثم رتل علي الأدعية، بكيت عند رأسه كطفل غرير، ثم غادرت بعدها بهدوء وفي صدري مزرعة من الحزن، هذيت بقوة وتساءلت كيف يخون الإنسان أخوه الإنسان؟