كنت قبل سنوات ليس بالقريبة، وعلى وجه التحديد أوائل عام 1408 الهجري أتردد على المكتبات العامة والخاصة، وأسأل المهتمين وأهل الاختصاص عن موضوع أتقدم به لنيل درجة الماجستير .. وبعد أخذ ورد،، ومشاورة ومداورة، اخترت “ دور مدرسة سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ في الحركة الثقافة السعودية” وبدأت في جمع مادة الدراسة المخطوط منها والمطبوع،، وقابلت عدداً من أبناء وأحفاد وتلاميذ سماحة المفتي والمهتمين بتراثه و القريبين منه -رحمه الله رحمة واسعة وأسكنه فسيح جناته- ومع أن الموضوع لم يوافق عليه من قبل المجالس المختصة، ومع أن البحث لم ير النور حتى تاريخه إلا أنني بصدق شرفتٌ بالعيش مع ابن إبراهيم “ الرجل الرمز، والعلامة الفذ” سبعة أشهر رائعة ومتميزة، وكم كانت سعادتي غامرة في التعرف على معالم من حياته وجمع شيء ولو يسير من تراثه الذي له مساس وعلاقة مباشرة أو حتى غير مباشرة في حركتنا الثقافية في المملكة العربية السعودية، ما يهمني هنا هو التوقف عند نظرته الواقعية وإدراكه العميق لطبيعة الحياة الثقافية والمعيشية في دنيا الناس، فهي - في نظره - تتغير وتتبدل وتتحور وتتحول ليس لها ثابت على حال، والأحكام فيها وعليها تدور مع أسبابها وجوداً وعدماً، والحكم على الشيء فرع من تصوره، والثقافات تتحاور وتتنقل من مكان إلى آخر وعبر التاريخ الإنساني الطويل ولا يمكن أن يقف المرء أو حتى المجتمع عند حد معين لا يتجاوزه أو يتعدها، ولذا فالواجب في نظره - رحمه الله - إعمال العقل في الجديد على ضوء النصوص الشرعية الصحيحة واختيار ما يتلاءم وطبيعة المجتمع ويفي بمتطلباته الآنية والمستقبلية، ليس هذا فحسب، بل هو من يقود التغير بنفسه ويتحمل مسئولية إقناع المخالف وبيان الحق على ضوء هدي الإسلام الصحيح، ومثالاً على ذلك ذٌكر لي الشيخ العلامة إسماعيل الأنصاري في المدينة المنورة، فذهبت إليه هناك طمعا في الظفر بالاستفادة منه في هذا الباب، وكان حينها في مرحلة إعادة ترتيب مكتبته بعد أن انتقل إلى منزله الجديد في حي الجامعة، والتي تكلف بتجهيزها – كما أسر لي هو بذلك رحمه الله - صاحب السمو الملكي الأمير عبد المجيد بن عبد العزيز آل سعود أمير المدينة المنورة آنذاك – رحمه الله – ..أكرمني الأنصاري واحتفى بي وشجعني على المضي فيما عقدت العزم عليه،، وتحدث طويلاً عن سماحة الشيخ ابن إبراهيم الذي قربه إليه وشجعه على طلب العلم ووثق به كثياً بعد أن عاش معه سنوات من عمره التي يعدها من أفضل أعوام حياته، حتى كان كما يقول هو رحمه الله : “يسافر معه ويخدمه محبة وإجلالاً، ويحرص على مصاحبته والبقاء عنده في الرياض ما استطاع إلى ذلك سبيلا “وعندما سألته عن موقف ابن إبراهيم من تعليم الفتاة، قال لي رحمه الله: “... كنا في البر فخرج الشيخ ليقضي حاجته فلحقت به وحملت له الماء وأمسكت بيده وحين سرت بصحبته وابتعدنا عن الخيام سألته متعجباً عن موقفه من هذا الحادث الجديد الذي كنت أظن حينها بحماسي وشبابي وغيرتي على الدين أنه باب شر قد يجلب لنا الكثير من الفساد، ودرء المفاسد – كما هو معروف - مقدم على جلب المصالح، فقال لي : يا ولدي هذا أمر حادث لا محالة، وإذا لم نقده نحن فسوف يأتي غيرنا ليتولى المهمة ويقوم بالدور الذي كان علينا أن ننبري له الآن، حينها لا يمكن لنا أن نتدخل لنغير أو نوجه ...”.
إن العلماء الربانيين ينظرون بنور الله، ولذلك فهم المرشحون قبل غيرهم لقيادة التغيير في مجتمعاتنا الإسلامية، وهم من تقع عليهم التبعة في سبر أغوار الجديد من النوازل والحوادث سواء أكانت أفكاراً أو أحوالاً أو قضايا وملمات، ومتى تخلى علماء الأمة الأجلاء عن القيام بهذا الدور، أو كانت النظرة عندهم متوقفة زماناً ومكاناً أو أنهم فتحوا باب سد الذرائع على مصراعيه، وأهملوا النظر في المصالح خوفاً من المفاسد المستقبلية متوقعة الحدوث أو أنهم... طبعاً كل هذا إذا كان الأصل في المسألة الإباحة وليس هناك نص شرعي يحرم أو يحلل، إذ كان ذلك منهم - لا سمح الله- فسيتحدث أنصاف العلماء وتخلوا الساحة للرويبضة “ الرجل التافه يتكلم في أمور العامة “ “فيضلُ ويضِل!!.
إننا في هذا الزمن أشد ما نكون حاجة إلا أن يكون من علمائنا الربانيين الموثقين من يقود مسيرة التغيير برؤية شرعية متزنة ووسطية متعقلة تأخذ بالدليل الصريح وتعمل العقل الصحيح وتفتح باب الاجتهاد في دائرة المباح وتسبر أغوار الواقع بعيون الفاهم اللبيب بغية الوصول لما فيه الصلاح في الحال، وفي الآخرة الفلاح ومن أجل أن تقينا نحن أفراداً وشعوباً ودولاً ويلات الأقوال الخاطئة والتفسيرات الواهية والتغيرات التي تضر في الحاضر أو حتى المستقبل، ومتى ظل الأمر كما هو اليوم فإن كثيراً من المصالح ستضيع وباب سد الذرائع سيكسر وقد يأتي اليوم الذي توسد فيه الفتوى إلى غير أهلها ليس بأمر الحاكم ولا السلطات الرسمية، ولكن بيد الأنصاف والمثقفين بل وربما العامة الذين قد لا يتورعون أن يوقعوا عن الله بغير علم ولا دراية بالمآلات والمصالح المعتبرة حينها ستكون النهاية لا سمح الله... دمتم بخير وإلى لقاء والسلام.