فقد الوطن الغالي قامة رفيعة في العلم والزهد والخلق الفريد، معالي الشيخ صالح بن عبدالرحمن الحصين، رحمه الله رحمة الأخيار، وأنزله فردوس الأبرار، والهم آله وإخوانه ومحبيه الصبر والسلوان، وليسَ لنا في هذا المقام الصعب سوى أن نردد مع المؤمنين الصابرين قول الحق تبارك وتعالى:{إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ}.
- لقد كان الشيخ صالح الحصين رحمه الله منظومة إنسانية من الخلق القويم، قولاً وعملاً، وكانت أحاديثه ومداخلاته المسموعة والمقروءة تنم عن رزانة في العقل، وغزارة في العلم، وتمسكاً بما يرى فيه حقاً لا شبهةَ فيه ولا ريباً، كان يقرأ بشغف في أمهات المصادر، عربية التكوين أو مترجمة، ليزداد بذلك بسطة في الاطلاع، وتنوعاً في المعرفة، وعمقاً في التحليل!
- وقد أدركتُ ذلك عبر تشرفي بالتعامل مع معاليه والاستماع إليه سنيناً، يوم أن كان عضواً في مجلس الخدمة المدنية، وكنت آنئذٍ أميناً عاماً لذلك المجلس، وهو يجيد (فن) الصمت و(مهارة) الاستيعاب لما يطرح من مسائل على جدول أعمال المجلس، وما يثار حول بعضها من جدل وجدل مضاد، عندئذٍ يمسك عن الكلام إلاّ متى وجد أنّ لا مناص له من المشاركة في البحث، لتصبح مداخلتُه في كثير من المواقف فصلَ الخطاب. وقد (يحكَّمه) أحد أطراف الجدل في المجلس فيما نشأ من اختلاف في الرأي حيال موضوع ما، فيسهم بما لديه من معرفة وحكمة ورجاحة رأي، ليفوز بالقول الفصل حسماً للاختلاف أو تقليصاً له!
- أما زهده في متاع الدنيا وزينتها بلا غلوِّ في ذلك ولا تكلف ولا رياء، فذاك أمر عرف عنه تمسكاً به وإصراراً عليه، لأنه كان يتكئ إلى قناعة نفسية وتسليم عقلي، وصفاء وجداني!
- وهناك من الأمثلة الدالة على زهده وتواضعه رحمه الله الكثير مما شهدته أو سمعته منه أو عنه، وأتذكر في هذا المقام موقفاً طريفاً رُوي عنه، فقد قدم إلى الرياض ذات يوم من مـقر إقامته فـي المدينة المنورة لإنجاز أمر ما، وكان حريصاً على العودة إلى المدينة في أقرب رحلة جوية، ويطلب من صديق له أن يتولى مهمة حجز العودة له، ريثما ينهي مهمته التي قدم من أجلها، ويتم كل شيء وفق ما شاء.
- ويذهب معالي الشيخ الحصين إلى المطار في الموعد المحدد متأبطاً عباءته كالمعتاد، فيجد صفاً من المسافرين يقفون أمام موظف الخطوط السعودية لإنهاء إجراءات سفرهم، فيقف فـي نهاية الصف، ترقباً لدوره، وحين يبلغ منصة الموظف، يتحدث إليه بأدب جم، معرِّفاً بنفسه وبغايته، ولم يكن (ترف) الحاسب الآلي قد دخل يومئذٍ الخدمةَ بعد، وكان بين يدي الموظف قائمة تضم أسماء المسافرين إلى المدينة المنورة، وتجول عيناه عبر القائمة أمامه، ليفاجئ الشيخ صالح بعبارة صاعقة (لا حجزَ لك عندنا)، فيرد الشيخ في الحال قائلاً: بلى، لي حجز باسمي، وقد أكد لي ذلك صديقي (فلان) ! لكن (مداخلة) الشيخ لم تزد الموظف إلاّ عناداً، فيطلب الشيخ منه الاطلاع على قائمة الأسماء، وكم كانت دهشته حين وجد اسمه مدرجاً فـي القائمة مسبوقاً بعبارة (معالي الشيخ)، فيقول للموظف: هذا هو اسمي وأُشهد الله على ذلك، ويرد الموظف بإصرار أشد: (نحن نترقب وصول مندوب معاليه لاستلام بطاقة الصعود إلى الطائرة)! فيعاجله الشيخ صالح قائلاً: لكن هذا الاسم اسمي، وأنا المعنيُّ بالحجز لا سواي، وهنا يتدخل بعض الحاضرين في الصالة، مؤكدين لموظف الخطوط أن مَنْ يقف أمامه هو معالي الشيخ صالح الحصين، (بلحمه ودمه)، وليس شخصاً آخر، فيقتنع الموظف (العنيد)، وخلال دقائق كان شيخنا يتجه إلى الطائرة وبيده بطاقة الصعود!
- رحم الله شيخنا التقيَّ النقيَّ صالح الحصين، فقد كان مزيجاً عَذْباً من كريم الخصال: أدباً جماً، وتواضعاً رفيعاً، وفكراً راقياً!