كانت لدينا في سالف الزمان وزارة عريقة قديمة مزمنة اسمها «وزارة التخطيط» عاشت كالظل الباهت لمراحل التنمية الرائع منها والمحبط، السريع منها والزاحف، المدهش منها والمتعثّر اليائس! كانت الوزارة المذكورة تخطط على الورق الملوّن الصقيل أبواباً وفصولاً خمسية، وتستنسخ منها صوراً للخمس القادمة بطريقة الترحيل؛ أي ترحيل ما لم ينفذ لكي ينفذ؛ حتى إذا يئس مخططوها من عدم قدرتهم على ملاحقة المؤجل أو المتعثّر أو ما اكتشف لاحقاً أنه عديم الجدوى، اكتفى المخططون في الوزارة العتيقة إياها بأسلوب الإحصاء غير الدقيق ولا الواقعي.
نقرأ الخطط المدروسة ونرى الرسوم البيانية فنزهو، ونحلق في سماء عالية من الخيالات الجميلة، بأننا سننتهي من كثير مما تتطلّبه دواعي التنمية خلال هذه السنوات الخمس القادمة! كلام جميل يكتبه موظفون فارغون لا شغل لهم إلاّ رسم البيانات الخيالية البعيدة عن الواقع، وتدوين ما يشبه الأمنيات المنفصلة المغردة على الورق وشاشات الحاسوب! كانت لدينا وزارة تخطيط، ثم أصبحت نصف وزارة، وقد يضمحل النصف الباقي كما اضمحل النصف الفاني؛ فلا جدوى من نصف وزارة منفصلة قديماً وحديثاً عن الواقع الذي نعيشه؛ وإلاّ لمَ كل هذه الاختناقات والاحتياجات الفادحة وتراكمات المطالب والمعالجات السريعة من رأس الدولة خادم الحرمين الشريفين - حفظه الله - لجوانب من النقص؛ كقضية الإسكان - مثلاً - حلاً سريعاً، لعدم مواكبة التخطيط للنمو السكاني وللتوسع العمراني وللمتغيّرات السريعة الطارئة التي لم يستشعر المخططون أية إشارات مبكرة لما يمكن أن يحدث من قفزات نمو هائلة في عدد السكان، لم تلب خطط التنمية الوهمية إلاّ أقل من النصف تقريباً من احتياج هذا النمو المتزايد من سكان المملكة ومطالبهم.
لو كانت لدينا وزارة تخطيط أو حتى نصف وزارة واعية، هل يمكن أن نتأزم بالنقص الفادح في المستشفيات أو الجامعات أو الطرق السريعة أو السكك الحديدية المهملة التي لم تؤمن الوزارة العتيقة أو نصفها بعدم جدواها، رغم أنّ أصغر بلدان العالم التي لم يتجاوز عدد سكانها خمسة ملايين ومساحتها لا تزيد على مساحة منطقة من بلادنا الشاسعة كسويسرا مثلاً، آمنت بجدوى السكك الحديدية قبل أكثر من قرن ونصف من الزمان! لو كانت لدينا وزارة تخطيط أو نصف وزارة حية واعية، هل كنا سنتأزم بكل هذه الاختناقات المرورية في شوارعنا؟ أو الأحياء العشوائية التي تتكاثر كالفطر بدون سابق تخطيط ولا تهيئة ولا بنى تحتية؟ أو أن طبقات منا تعيش دخولاً متواضعة أقرب إلى الفقر لا تتواءم أبداً مع مستوى الغنى والثروة التي تتمتع بها بلادنا؟ أو أنّ الأزمات المالية العارضة بسبب تذبذب سعر البترول في سنوات مضت عطّلت مشروعات مهمة؛ لاعتمادنا على مصدر واحد قد يستغني عنه العالم بعد حين أو قد يتعرّض لهزّات عنيفة في أسعاره في أي وقت وبدون سابق إنذار؟! أين وزارة التخطيط عن العجز في المطارات؟ أو أزمات النقل الجوي وعدم السماح بتكوين شركات جوية تجارية محلية أو أجنبية؟ أين هي من أزمة الإسكان التي تفاقمت وأصبحت قضية رئيسة مؤرقة من قضايا الوطن؟ أين هي من أزمة البطالة المتفاقمة في بلد يعمل فيه أكثر من عشرة ملايين أجنبي؟ أين هي من فوضى العمالة وما تكبه في ديارها من مليارات بدون أية ضريبة؟ أين هي من ظاهرة الفقر التي لا يمكن أن تصدق في بلد عمت خيراته الدنيا؟ أين هي من الرعاية الصحية المتواضعة؟ أو الضمان الاجتماعي البائس؟ أو عمل المرأة المحدود؟ أو الإعلام والأدب والثقافة المهمشة؟ أو صورتنا المشوّهة لدى العالم؟ أو تعزيز الأمن بفتح أبواب التوظيف لأجيال الشباب دفاعاً عن الوطن وحفاظاً على أمنه الداخلي؟! لم نعاني من كل هذا التراكم المرعب من الأزمات التي غابت عن عبقرية المخططين في وزارة التخطيط؟! الجواب: لأننا نسير خبط عشواء بإشراف الوزارة المصونة طوال عمرها المزمن العتيق وحتى الآن!
moh.alowain@gmail.commALowein@