كنت من بين أوائل من كتبوا عن تصنيف جامعتنا فور صدور التصنيف الإسباني سيئ الذكر، الذي وضع جامعتنا في ذيل قائمة التصنيف العالمي مع دول متخلفة عنا بمراحل كجيبوتي، وكانت كتابتي آنذاك تهدف إلى زيادة دعم الجامعات، وإلى تغيير كادر أعضاء هيئة التدريس القديم..
وإلى محاولة دفع إدارة الجامعة لتجديد دماء إداراتها، وللأمانة فلم أكن مقتنعاً آنذاك، ولست مقتنعاً اليوم بقيمة مثل هذه التصنيفات؛ لمعرفتي بأنه لا توجد معايير موضوعية علمية تستطيع أن تصنف جامعات في مجتمعات مختلفة بشكل دقيق، مهما كانت تلك المعايير.
وكانت كتابتي حينئذ نقداً، أردت به ممارسة نوع من الضغوط نحو التجديد في الجامعة. وتوالت الكتابات حول الموضوع، وتلقفها الناس، قاصيهم ودانيهم، متعلمهم وجاهلهم، واتخذها بعضهم موضوعاً للتندر على الجامعات التي يتقاتلون على إيجاد أماكن لأولادهم فيها. ولا يداخلني شك أن ذلك لمس مشاعر كثير من المسئولين في البلاد، وعلى وجه الخصوص المسئولون عن التعليم العالي ومديرو الجامعات.
تبدلت إدارات الجامعات واخذ المديرون الجدد على عاتقهم تحسين تصنيف الجامعات وجعل بعضهم ذلك أولوية من أولويات إدارته. وما إن باشروا قضية التصنيف عن قرب حتى اكتشفوا أن هناك أموراً شكلية كثيرة تؤثر في التصنيف، منها النشر في بعض الأوعية العلمية الخارجية، واستقطاب بعض الأسماء الكبيرة في بعض المجالات، أو أمور وتفاصيل تتعلق بتفعيل المواقع الإلكترونية فتوجهوا لدعم انشطة تصب في هذا الهدف قد لا تكون ذات صلة كبيرة بتحسين التعليم الفعلي، وصرفوا على ذلك مبالغ كبيرة، فضاع جهد التطوير العلمي الحقيقي في خضم الجهد التصنيفي، واختلط الحابل بالنابل.
التركيز على أمور التصنيف انعكس مباشرة في تحسن مواقع بعض الجامعات في التصنيفات العالمية، وكان ذلك في وقت قصير نسبياً مما يدلل على أن التصنيف الأول لم يكن يعكس الواقع الحقيقي لبعض جامعاتنا؛ لأنها لم يكن بإمكانها أن تتغير بهذا الشكل الجذري في وقت وجيز.
ولكن الضجة التي أثيرت حول هذا الموضوع فتحت الباب في الإعلام على مصراعيه لانتقاد الجامعات، سواء كان النقد بناء أو مغرضا. ووجدت الجامعات نفسها في وضع لا تحسد عليه، وضع مفارقة منطقية لا تخلو من الطرافة المحزنة أحيانا. ذلك أن المبالغ التي صرفت على التصنيف جعلت كثيرا من المراقبين ينتقدها لذلك، لأنهم لا يرون للتصنيف تلك الأهمية التي تستحق كل هذا الجهد والمال؟ ولذلك اتهمت إدارات الجامعات باتخاذ التصنيفات وسيلة لرفع تصنيفها هي، وأنها أهملت عملية التعليم الحقيقية في سبيل تصنيف ليس له أهمية حقيقية على أرض الواقع. أما الفريق الآخر فواصل نقد الجامعة بمناسبة وغير مناسبة بسبب تدني تصنيفها. فالجامعات ملومة إن عملت من أجل التصنيف وملومة إن لم تعمل من أجل التصنيف!! حتى أن هناك من كال لبعض الجامعات المديح لسرعة ارتقائها لسلم التصنيف، ثم ما لبث أن انتقدها في العام ذاته متهماً إياها بالتفريط في التصنيف! فما حقيقة هذه التصنيفات وأهميتها بالنسبة لجامعاتنا؟.
كتب دانكن روبنسن من مجلة النيوستيتمان في سبتمبر 2010م مقالا بعنوان «حقيقة التصنيف الجامعي» حاول فيه استجلاء الحقيقة حول هذا الأمر فيما يتعلق بالجامعات البريطانية. ويذكر روبنسن أن تصنيف كيو إس Quacquarelli Symond الذي صدر قبل أسابيع جاء متناقضا كليا مع تصنيف التايمز للجامعات العالمية THES ومع تصنيفات محلية لصحيفتي التايمز، والجارديان. فأربع من أعلى الجامعات تصنيفا في العالم حسب كيو إس كانت بريطانية، وسبقت جامعة كيمبردج جامعة هارفارد في التصنيف، وجامعة كلية لندن وردت قبل أكسفورد، وجاءت 19جامعة بريطانية ضمن أفضل جامعات العالم. بينما على تصنيف THES لم تأت إلا خمس جامعات ضمن أفضل 50 جامعة في العالم. وأتى ذلك أيضا متناقضا مع التصنيفات المحلية للجامعات بما فيها التصنيفات الأهلية للجارديان والتايمز، التي صنفت اكسفورد كأفضل جامعة بريطانية، بينما صنفتها التصنيفات العالمية السابقة خلف كمبريدج وخلف جامعة كلية لندن. وبينما سبقت جامعة درم جامعة كلية لندن بمركز واحد في تصنيف التايمز أوردها تصنيف THES خلفها بثمانٍ وثمانين مرتبة. ويعزو روبنسون هذه الاختلافات الواضحة في التصنيفات للتباين الواضح في معاييرها.
فتصنيف كيو إس يعتمد على الاستبانات التي تقدم للأكاديميين والطلاب، وعلى معايير مثل نسبة أعضاء هيئة التدريس للطلاب، وعدد الطلاب الأجانب في الجامعة، ووجود أساتذة عالميين في الجامعة، وعدد الاقتباسات الأكاديمية من أبحاث الجامعة. وفيما عدا المعيار الأخير، لا يرى رونسون قيمة علمية مباشرة للمعايير الأخرى، فهي لا تعكس جودة التعليم بأي حال من الأحوال، فوجود أستاذ عالمي في الجامعة لا يعني بالضرورة أن الجامعة تقدم تعليما عالميا. وتقييم الطلاب لمستوى التعليم في جامعتهم لا يمكن أن يؤخذ كمعيار موضوعي للتصنيف؛ لأن ذلك مرتبط بمستوى توقعات الطلاب للتعليم، ومستوى خبرتهم السابقة به.
ولا يخفى على العارفين بأمور التصنيف أن أهميتها تكمن في كونها: أولاً: تؤخذ في عين الاعتبار عند تخصيص الدعم العام والخاص للجامعات، فكلما علت رتبة تصنيف الجامعة زاد دعمها المادي. وهنا يختم روبنسون مقاله قائلاً إن التصنيفات والدعوم التي تأتي بناء عليها لم تسهم مؤخراً في أي تقدم أو تطور للجامعات، ويطالب بإيجاد معايير أخرى لقياس الدعم. ثانياً: إنها تستخدم في إغراء الطلاب للالتحاق بالجامعات، وهنا يقول رئيس جامعة بريتش كولومبيا صراحة: إن الآباء والأولاد ينظرون للتصنيف عند اختيار الجامعات، وإذا كان الأمر كذلك فهم مضحوك عليهم. ويرى كثير من الخبراء أن امور تصنيف الجامعات قد داخل بعضها كثير من امور الكذب والاحتيال بسبب أهميتها المالية.
نعود الآن لجامعتنا، فهي جامعات حتى الآن ولله الحمد لا تحتاج لتمويل غير حكومي، فهي تحصل على دعم أكثر من كاف فيما لو احسن التصرف بالمال المتاح لها. ولا شك أن الجامعات التي تظهر جدية في أمور مهمة أخرى للوطن تستطيع الحصول على دعوم استثنائية أخرى كبيرة. كما أن الجامعات تدرّس الطلاب بلا رسوم، بل وتمنحهم مكافآت، وهي لا تعاني من قلة الإقبال على الدراسة فيها بل من كثرته. ولذا فالتصنيفات العالمية والتي لا يمكن - في نظري - أن تنصفنا مهما ركضنا خلفها، ليست بذات أهمية كبيرة لنا. وربما كان وضع جامعتنا من حيث مستوى وجدية التعليم الحقيقي قبل التصنيفات أفضل منه بعدها.
بطبيعة الحال، أن نحتل اليوم مراتب أعلى من هذه التصنيفات أفضل من أن نظهر في مراتب متدنية، ولكن يجب ألا يشغلنا الركض وراء التصنيف عما هو أهم وأفضل، وهو احداث تطور حقيقي في مجالات التعليم والبحث لدينا، وأن ننشغل ببحثنا وحاجاتنا العلمية عن بحث وحاجات غيرنا. كما أنه يتوجب علينا ألا ننفق عليها من مواردنا المالية والبشرية أكثر مما تستحق. وتصنيفنا نحن لأنفسنا من حيث الجدية والأمانة العلمية هو ما يجب أن يرشدنا في عملنا، فإذا ارتفعنا في تصنيفات عالمية أو اقليمية أخرى تهتم بنا فبها ونعمت، وإذا لم نرتفع فليس هناك ما يؤسف عليه.
قابلت خلال الأعوام الفارطة خريجي دراسات عليا من جامعات أمريكية وبريطانية بعضها تصنيفها في السماء، لكن ذلك وللأسف لم ينعكس عليهم، وتمنيت لو تعلموا في جامعتنا، فلربما حصلوا على تعليم أفضل. فمن يملك العلم هو ليس من السذاجة أن يقدمه لك على طبق من ذهب، ولكن الأمور العلمية تؤخذ غلابا، بكل ما تحمله هذه العبارة من معنى. كما يعمل معنا أعضاء هيئة تدريس من دول مجاورة ما زلنا ننظر لهم بعيننا قبل أربعين عاماً، بينما واقع الحال أننا تجاوزناهم، لكننا لم نتجاوز عقدة مركب النقص أمامهم، ونظرتنا السابقة لهم.
ما تحتاجه الجامعات هو تطوير معايير الاختيار للعمداء، ورؤساء الأقسام، ومديري مراكز البحوث، فهذا هو مربط الفرس وليس التصنيف. فما زلنا - وللأسف - انطباعيين وشخصانيين في كثير من هذه الاختيارات، وهذا ما ألحق أكبر الضرر بمؤسساتنا العلمية وأهدر كثيراً من مواردها. كما أنه، وبكل صراحة، يجب أن تتوقف التدخلات الخارجية في هذه الاختيارات، ويجب أن تؤسس الاختيارات على الكفاءة العلمية والبحثية فقط. فجامعاتنا على أبواب نهضة كبرى بإذن الله كماً ونوعاً، ولا شك أن إدارة التعليم ذات طابع معقد بشكل خاص. والله من وراء القصد.
latifmohammed@hotmail.comTwitter @drmalabdullatif- أستاذ في جامعة الملك سعود