للتذكير فقط، نشرت الجزيرة في الشهر الماضي في هذه الزاوية حلقتي مفاضلة بين نموذجي دبي وسنغافورة. في يوم الجمعة الفائت عقب الصديق المقرب الدكتور عثمان الربيعة على المقارنة بمقالة ثرية بالمعلومات أنيقة في الطرح كما هو المعتاد منه.
فرحت بالتعقيب مصدرا ومحتوى وأسلوبا، ولذلك أحاول هنا التعقيب على التعقيب. منذ البداية يعترف أبو عبدالعزيز بتفضيله الحصول على الخيارين معا (دبي وسنغافورة) لأنه لا يريد وضعنا في مأزق، فإن فضلنا نموذج دبي اتهمنا بحب الارتخاء والدعة، وإن فضلنا سنغافورة نتعرض للاتهام بالكذب على النفس. يا أبا عبدالعزيز لقد أراد أخوك أبو عدي فعلا وضعنا جميعا في مأزق، ليس أخلاقيا أو أدبيا، بل في مأزق حضاري تشير بوصلته نحو البحث عن المستقبل.
يا صاحبي تشبيهك دبي وسنغافورة بالبرتقالة والتفاحة ملهم بحد ذاته، ويشي بابتسامة دهاء مختفية في التفاصيل وعلى القارئ أن يبحث عنها. البرتقالة جذابة اللون حتى عن بعد أكثر من التفاحة ورائحتها جاذبة كذلك. البرتقالة تعطيك العصير اللذيد بمجرد أن تنزع قشرتها الخارجية، تعطيك العصير (حامض حلو)، خلطة ذكية من لذة الحلاوة وحموضة السعر، وكذلك هي دبي. التفاحة جميلة اللون أيضا لكنها أقل جاذبية من البرتقالة، رائحتها لا تفوح عن بعد وتحتاج قبل تناولها إلى تقطيع لأنها صلدة القوام وإلى أسنان قوية للنهش والطحن. التفاحة لا تعطيك مثل البرتقالة عصيرا ناجزا حتى لو كنت أدرم الأسنان، لكنها تمدك بكل المكونات الغذائية مجتمعة. باختصار، التفاحة أقل جاذبية، يتطلب الاستمتاع بفوائدها مجهودا أكثر، ومردودها الغذائي أكبر. ربما لهذه الأسباب يفضل العربان عن بكرة أبيهم البرتقالة على التفاحة.
أما بخصوص خشيتك من الكذب على النفس في حالة تفضيل نموذج سنغافورة، فإنني شخصيا أجد تفضيلك أن تكون المقارنة (كما ذكرت في آخر المقال) بين منطقة الخليج ونموذج كوريا الجنوبية لن يكون في وارد الكذب على النفس فقط وإنما في وارد الافتراء لصالح منطقة الخليج والبهتان العظيم في حق كوريا الجنوبية، وكما يقول أهل العراق، العرب وين والعالم وين؟ أما التحقق من صعوبة المقارنة بين نموذج دبي ونموذج سنغافورة من خلال الرجوع إلى أصول التكوين التاريخي والسياسي لكل نموذج، والفرق بينهما في قابلية النمو والازدهار، فهو تحقق صحيح بالإجمال، لكنه شديد الشبه بفقه سد الذرائع، لأنه يكاد يقول مادامت الأصول التكوينية لدولة ما هكذا وثقافة العمل فيها هكذا، فلا أمل لها في التنمية. ماليزيا التي كانت سنغافورة جزءا جغرافيا وإداريا منها مازالت دستوريا (من باب المحافظة على الإرث التاريخي) سلطنة وراثية متآلفة من عدة أقاليم، لكن طموح كوادرها الإدارية قفز بها فوق هذا الواقع بفرض التعددية الانتخابية وأوصلها إلى ما وصلت إليه سنغافورة من إنجازات.
أما الاستدلال بفارق عدد السكان بين سنغافورة ودبي وبنسبة المواطنة الديموغرافية، فهاك العالم العربي خذه بكامل سكانه لتقارنه بسنغافورة إنتاجيا وتنمويا، وسوف تجد أن الكفة تميل لصالح سنغافورة في كل شيء لأن العبرة ليست بالكثرة بل بالنوعية.
نصل الآن إلى الفرق في ثقافة العمل، وهذا هو مربط الفرس. ثقافة العمل مجرد نتيجة تتناسب طرديا مع ثقافة الطموح، أما ثقافة الاكتفاء بالمتيسر فتتناسب طرديا مع ثقافة قلة الطموح. قبل نصف قرن فقط كانت كل دول آسيا ما عدا اليابان تقع في خانات الدول ذات الثقافات المتدنية في مفاهيم العمل ومقاييس الإنتاج. عندما استيقظ الطموح القيادي لدى حكوماتها وكوادرها تفجرت فيها طاقات هائلة من ثقافة الإنتاج والعمل. بكل بساطة، الفلاح الذي ينحني على المحراث البدائي اثنتي عشرة ساعة في اليوم لديه ثقافة عمل عالية، لكن جودتها النوعية تحتاج إلى صدمة إيقاظ قيادية.
استيقظت ثقافة العمل الإنتاجي في سنغافورة قبل نصف قرن فقط مع أخواتها في الصين وتايوان وهونج كونج، أما ثقافة العمل الإنتاجي في دبي (ماعدا ثقافة التسلية) فمازالت تنتظر استيقاظ أخواتها في دول الجوار، وهذا ما أردت قوله بالضبط عندما طرحت المقارنة بين دبي وسنغافورة.
ثم يا أبا عبدالعزيز حفظك الله، إن الإنتاج الصناعي أشكال وأنواع وليس مجرد صناعات ثقيلة وآلات وسيارات وطيارات. هناك الصناعات الخفيفة، صناعة الإلكترونيات والبرمجيات واللقاحات والأدوية والبيطريات والبحوث العلمية في تحسين محاضن الأسماك وبحوث الاستزراع على الشواطئ المالحة، وغير ذلك كثير. لا أحد ينتظر من دبي صناعة حاملات طائرات، ولكن ينتظر منها استغلال موقعها وأموالها وعلاقاتها العامة ومرونتها الإدارية في تحسين الأمن الإنتاجي لنفسها وتقديم نموذج قيادي لجوارها. أما الأمن الديموغرافي، وهذه نقطة في غاية الاهمية لكامل منطقة الخليج العربي، فالباب مفتوح للتجنيس النوعي الاختياري للعرب المقيمين فيه. هذا هو الخيار الوحيد أمام دول الخليج لسد ثغراتها الديموغرافية الهائلة.
بقي أن أعبر لك عن سعادتي البالغة بتعقيبك العميق.