عندما تقلب صفحات التاريخ وتستحضر سير العلماء والنبلاء على مر الزمن، سوف تقف بكل إجلال وإكبار عند رجل جمع الله له ما لم يجمع لغيره من أهل الفضل والإحسان والفكر والأدب والقانون والاقتصاد والسياسة على مرّ تاريخ الأمة الإسلامية صالح الحصين.. هكذا كان يريد ويحب أن يُنطق اسمه بدون الشيخ أو المعالي أو الرئيس أو الخبير أو المستشار.. إنه الرجل الذي جمع الفنون من أقطابها فهو القانوني الذي وضع ورسم كثيراً من الأنظمة في المملكة العربية السعودية، فقد كان يوماً في هيئة الخبراء، وهو من أوائل الحاصلين على الماجستير في القانون إبان رحلته إلى فرنسا في زمن الانبهار، لكنه الرجل الذي يحمل الأسس الحقيقية لدين الإسلام والقناعة الفكرية أن دينه خير دين وأفضل شريعة وملة، فلم يستلب ويختطف كما حصل للكثيرين من أقرانه في بلدان عربية شتى، ثم هو الاقتصادي الذي لا يشق له غبار وما صندوق التنمية العقاري إلا حسنة من حسنات أفكاره وروعة عطائه، فهو صاحب المبادرة والفكرة والتأسيس والإشراف، ثم هو المفكر الذي يسلبك بروعة حديثة وسعة اطلاعه وغزارة علمه وقدرته على احتواء من معه.. لقد كان الرجل الذي اجتمع عليه كل المتحاورين في الحوار الوطني، له أُفق كبير وواسع وعمق في الفكر والملل والنحل وأسلوب راقٍ في الحوار والنقاش والمدارسة، وهو الكاتب الذي يصوغ العبارة من دمه ويرسلها إلى أفق بعيد ليرسم لكل من يقرأها مساحة من العبقرية والنفوذ إلى روح المعاني والاختيار الموفق والاستدلال العقلي والشرعي الذي يجبرك على القبول بفكرته والانصياع لكلمته والقبول برأيه، وهو العالم الرباني الذي نهل علمه من دروس الحرمين وله باع طويل في الفقه والحديث وجالسَ الكثير من العلماء في جميع أنحاء العالم الإسلامي، فهو عالمي الرؤية والفكر والنظرة والفتوى حتى نال رتبة عضو هيئة كبار العلماء، وله فتاوى تحمل التأصيل وسعة الإدراك واحتواء المسألة من جميع أصولها، ثم إعطاء السائل فتوى عليها نور العلم ومسحة التقوى وسعة الأفق، فيجد السائل في فتاواه الراحة والصدق والقبول، ولك أن تتخيّل عالِماً جليلاً يجيد اللغة الإنجليزية والفرنسية كيف سيبحر في العالم الإسلامي.. إنك لن تجد عَلَماً من العلماء بهذه الروعة والدهاء والفكر والثقافة والعلم، ثم هو رائد العمل التطوعي والخيري، وهو الذي أشهر سيف الدفاع عن المؤسسات الخيرية الإسلامية أمام حرب الإرهاب الجائرة، فهو العضولبارز في كثير من المؤسسات الخيرية المحلية والعالمية، وهو المستشار الذي ترجع إليه الكثير من مؤسسات العمل التطوعي والخيري، بل هو بكل اقتدار رائد من رواد الأعمال الخيرية خصوصاً للجاليات والأقليات المسلمة في أوروبا وبقاع شتى من العالم، وهو داعم لها بالمال والفكر والتأصيل والتخطيط، وهو المستشار الإعلامي لكثير من القنوات الفضائية المحافظة بلغات شتى والنشرات والدوريات، فيعطي المشورة تحمل بين جنبيها الخير والنور والهدي والتأصيل، ثم هو صاحب المسؤوليات الكبيرة والمهام الجليلة، فلك أن تتخيّل المسمى معالي الشيخ، ورئيس الحوار الوطني، ورئيس شؤون الحرمين، ومع هذا فهو الذي يحمل نعله بيده ويدخل المسجد الحرام ويطوف مع الناس ويصلي في التوسعة، وهو الذي يركب النقل الجماعي من مكة إلى المدينة، وهو الذي يركب الدرجة السياحية وهو الذي يرفض الاستقبالات في المطارات، بل يأخذ أقرب عربة أجرة ويذهب لاجتماع في الديوان أو هيئة كبار العلماء أو مركز الحوار الوطني، بل هو الذي يجالس عمال النظافة والصيانة ويأكل معهم وهو الذي يذهب راتبه إلى المؤسسات الخيرية.. يقول الشيخ محمد المنجد: حضرت يوماً عنده في مكتبه فأخذ ورقة من علبة الفاين ثم قسمها نصفين، فاستعمل نصفاً وترك الآخر.. إنه رجل الدولة الذي لم يتخوَّض في المال العام بحجج وتأويلات، بل إنه رفض الفندق ذا الخمسة نجوم وسكن في غرفة على سطح أحد منازل أقاربه.. إنه الأب العطوف والزوج الخيّر والأخ المشفق والجار الكريم.. إن رجلاً كهذا تبكيه الأمة قاطبة ملء محاجر عيونها، وثلمة في الدين لا تُسد ورحيل مر وفَقْد جلل، ووالله الذي لا إله إلا هو إن رجلاً حمل مثل هذه الخلال لحريٌ بنا أن نسير على نهجه، نقفو أثره ونحقق تطلعاته ونتلمس مواطن التربية في حياته.. حري بالعلماء والدعاة والمسؤولين أن يرسموا من سيرة هذا الرجل منهجاً لهم في الصدق والأمانة والعمل في وزاراتهم ومناصبهم لخدمة دينهم ووطنهم والعمل المخلص والتواضع والجد في طلب العلم وسعة الأفق والثقافة والرؤية البعيدة.
رحمَ الله الشيخ صالح الحصين، وأسكنه فسيح جناته، وألهم أهله وذويه الصبر والسلوان، وخلف على الأمة والوطن خيراً.. {إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ}.
خطوب لا تشابهها خطوب
وكرب لا تشابهه الكروب
وأضلاع سرى فيها التياع
تكاد لهول لوعتها تذوب
بربك حامل النعش المسجى
تلبث هل لنا منه نصيب
وداعا يا إماما قد عرفنا
نؤوب إلى البيوت ولا يؤوب
خلوفة بن محمد الأحمري