|
وارسو - عبدالله فهد أباالجيش:
تلبية لدعوة من جامعة وارسو في بولندا قام الأستاذ خالد بن حمد المالك بإلقاء محاضرة أمام طلبة ومسؤولي الدراسات الشرقية والإسلامية في معهد الدراسات الشرقية التابع للجامعة وذلك في 24 إبريل 2013م، وكانت المحاضرة تحت عنوان (التغيرات الطارئة في وسائل الإعلام العربية بعد أحداث الربيع العربي).
وبحضور كل من سعادة سفير خادم الحرمين الشريفين بجمهورية بولندا الأستاذ وليد بن طاهر رضوان وسعادة سفير جمهورية الجزائر عميد السلك الدبلوماسي الإسلامي بوارسو الأستاذ عبدالقادر الخمري وسعادة سفير دولة فلسطين الأستاذ عزمي الدقة وسعادة سفير ليبيا الأستاذ عبدالرحمن أبو عون وسعادة سفير تونس الأستاذ سليم بن جعفر والبروفيسور المستشرق يانوش دانتيسكي المحاضر بعدد من الجامعات البولندية والدولية والبروفيسورة ايفا مانديستكا رئيسة قسم الدراسات العربية والإسلامية في معهد الدراسات الشرقية والبرفيسور جورج يعقوب أستاذ الدراسات الشرقية. وفيما يلي نص المحاضرة:
ما يُسمى بالربيع العربي مصطلح عربي أُطلق على الثورات العربية التي بدأت بتونس مروراً بمصر فليبيا ثم اليمن وأخيراً لا آخراً سورية، وهو مصطلح متفائل جداً بأن عهداً من الربيع سوف يسود هذه الدول بعد القضاء على الأنظمة المستبدة فيها، بأمل أن تنتقل الحياة فيها إلى مساحة كبيرة من الرخاء والحرية والعدل والمساواة بين المواطنين، متزامناً ذلك مع غياب كامل لحكم الفرد والفساد - كما كان يفترض - وإحلال النظام الديمقراطي الذي يتطلع إليه المواطنون بدلاً من النظام الدكتاتوري الذي حكم شعوب هذه الدول بالحديد والنار.
****
كان هذا هو الأمل المنشود الذي تاقت إليه وانتظرته هذه الشعوب، وقد عبرت عنه تلك الأصوات والمظاهرات في الميادين والشوارع وساحات الحرية في تصميم وإصرار منها على إجراء هذا التغيير بأمل أن تستمتع بنسيم الحرية مثلها في ذلك مثل كل شعوب الدنيا، فجاء مصطلح الربيع العربي متناغماً ومنسجماً ومتوافقاً مع ثوابت وتوجهات وأهداف الثورة والثوار التي عبروا عنها بملاحمهم البطولية التي أسقطت الطغاة من عروشهم بعد سنوات من الانتظار الطويل والتطلع نحو الغد الأفضل.
****
غير أن ما سمي بالربيع العربي منذ عامين مضيا لم يكن اسماً على مسمى، فقد تبخرت الكثير من الآمال، وعانى المواطنون من وضع أنظمتهم الجديدة وكأن شيئاً لم يتغيّر، بمعنى أن الأنظمة البديلة كان عليها أن تكون أفضل من سابقاتها، وأن تترجم تطلعات شعوبها في تنفيذ إصلاحات ملموسة استجابة لكل ما كان سبباً في قيام هذه الثورات، مستفيدة من الأخطاء والتجاوزات التي صاحبت أسلوب حكم الأنظمة البائدة، غير أنها بعد أن أطبقت على مقاليد الحكم لم تفعل ذلك، مما خلق جواً من عدم الاستقرار والتوتر، منذراً بأن عهداً كهذا لن يطول، وأن تجميله بإطلاق صفة الربيع العربي قد لا يمثِّل الواقع ما لم يُترجم إلى إنجازات، وهذا لن يتحقق إلا حين يراجع الحكام الجدد مواقفهم وأسلوب تعاملهم مع شعوبهم التي أهلتهم وقادتهم إلى كراسي الحكم في بلدانهم.
****
لقد ساهم هذا المناخ غير الصحي الذي ساد الأنظمة الجديدة في عدم استقرار هذه الدول، وبالتالي ساعد على ظهور التحزبات والتكتلات والخلافات والصراعات والفوضى بشكل قد يؤثر - إن لم يكن قد أثر فعلاً - على وحدة الموقف بين المواطنين الذي كان سائداً قبل انجلاء الغمة بسقوط الأنظمة المؤذية لحريات مواطنيها؛ ما يعني أن على هذه الأنظمة أن تعيد النظر في تجاهلها لحقوقهم الإنسانية في لقمة العيش والمشاركة في العمل السياسي دون تهميش أو إقصاء أو انحياز لهذا دون ذاك من المواطنين.
****
وفي ظل هذه الأجواء المتقلبة والضبابية لم تكن وسائل الإعلام العربية بعيدة عن تناول ومتابعة هذا الحراك المؤثر مع إطلالة الربيع العربي وما بعده، وإن اختلف تعاطيها مع الأحداث من دولة لأخرى ومن صحيفة لأخرى، وفقاً للهامش المتاح لها للتعبير عن وجهات نظرها، بحسب ما يمليه عليها دورها الذي تضطلع به، أو مستوى ما قد يكون لها من ارتباط أو علاقة بتلك الأنظمة، فضلاً عن سقف الحرية المتاح لها لتقول كلمتها بحرية كاملة ودون خوف أو وجود حسيب يحاسبها على حركاتها وسكناتها وعلى ما تقول.
****
ومع أن بلادي المملكة العربية السعودية لم تكن ضمن دول الربيع العربي، كما أنها لم تكن طرفاً مباشراً في هذه الثورات، وإن كان موقفها السياسي ظل إلى اليوم داعماً ومسانداً للشعوب العربية التي تتعرض للإبادة بحكم أن سياسة المملكة تمتنع عن قبول أي مساس يضر بالأشقاء المواطنين العرب قمعاً أو قتلاً أو إضراراً بالممتلكات، فإن وسائل الإعلام السعودية كانت متابعة للتطورات على الأرض في دول الربيع العربي، وملتزمة بتمكين متابعيها من التعرف على حقيقة ما تفعله هذه الأنظمة من ظلم وقهر وإبادة بحق المواطنين في عدوان سافر لم يشهد التاريخ له مثيلاً، بينما كان على هذه الحكومات أن تكون على استعداد للنزول عند رغبة مواطنيها، وذلك بأن تستجيب لمطالبهم في الإصلاح حقناً للدماء ومنعاً للدمار.
****
لقد سقطت زعامات هذه الأنظمة البوليسية كما تتساقط أوراق الشجر في الخريف، بين قتيل أو سجين أو هارب أو مختفٍ عن الأنظار، ينتظر مصيره الأسود، وكلها - ويا للمصادفة - أنظمة عسكرية وصلت إلى سدة الحكم بانقلابات عسكرية، أي أنها لم تأت إلى الحكم برغبة شعوبها أو بانتخابات نزيهة من خلال صناديق الاقتراع، ولم يكن وارداً بعد عقود من حكمها أن تتركه لغيرها لولا هذه الثورات الشعبية الشاملة التي زلزلت عروش هؤلاء الحكام بإصرارها وشجاعتها وتصميمها على تغيير هذه الأنظمة بصدورها العارية أمام آلة عسكرية وبشرية لا ترحم.
****
على أن الحديث عن وسائل الإعلام العربية في دول الربيع العربي من حيث موقفها من هذه الثورات وحجم التغيير الذي طرأ على تعاطيها مع هذه الأحداث بعد أن سادت أجواء الربيع العربي هذه الدول، يقتضي منا أن نشير إلى أن هذه الوسائل وتحديداً في دول الربيع العربي تفاوتت في مواقفها بحسب أجندة الجهة التي تملك حقوقها وتمولها، سواء أكان القطاع العام أو الخاص، لكنها بمجملها أخذت بالتدرج للانسلاخ من التأييد الأعمى لهذه الأنظمة إلى التخلي عنه فالانحياز - وبدون تحفظ - إلى الثوار دعماً وتأييداً، وإن احتاج هذا الموقف من الإعلام العربي بعض الوقت لمؤازرة الثوار ودعم مواقفهم.
****
في مقابل ذلك، فقد التزم الإعلام العربي خارج نطاق بلدان الربيع العربي، ومنذ بداية الثورات بالتأييد والمساندة والمتابعة الدقيقين لخطوات الثوار وتصميمهم في تغيير الأنظمة لأنه لم يكن هناك ما تخشاه أو تخاف منه، وإن ظهرت بعض الوسائل الإعلامية المحسوبة على هذه الأنظمة والتي تدافع عنها وتحاول أن تجملها باستحياء، لكنها هي الأخرى ما أن شعرت بقرب رحيل هذه الأنظمة حتى بدأ حماسها يخف، ومساندتها تتوارى، ودعمها يختفي، فيما أن الزخم الإعلامي الكبير وعلى امتداد دول العالم لتغطية هذه الثورات أصبح يتقدم في نشرات الأخبار على غيره من التطورات والأحداث والمستجدات الأخرى في العالم.
****
وبهذا، يمكن القول إن الخوف الذي كان يصاحب العمل الإعلامي - المحلي تحديداً - والتردد الذي رافق الإعلام في تعاطيه مع التطورات في بدء أحداث الربيع العربي، كان غير ذلك عندما توسع النشاط الثوري الشعبي، وضعفت السلطة في السيطرة على الأوضاع، فقد تخلى الإعلاميون عن حالة التردد، وودعوا الخوف، وأصبح الإعلام رقماً مهماً ومؤثراً في مساندة الثوار، وهو ما يعني أن الثوار لم يعودوا بلا مساندة إعلامية تعبر عن أهدافهم وتطلعاتهم وتتحدث عن همومهم، وإنما أصبحوا يملكون الآلة الإعلامية التي حرموا منها طويلاً، وتحديداً قبل قيام هذه الثورات وعند بدء قيامها.
****
مع أن هذه الأنظمة منعت قبل سقوطها دخول الإعلاميين العرب والأجانب إلى أراضيها لنقل ما يجري على الأرض من معارك ضارية بين هذه الأنظمة والثوار، وعتمت في بداية الثورات عليها، مكتفية بما تنشره صحف هذه الأنظمة ووسائل الإعلام الحكومية الأخرى، أي أن هذه الأنظمة كانت تنقل وجهة نظرها مع تغييب وجهة النظر الأخرى، وذلك ضمن سعيها لإفشال هذه الثورات الشعبية التي بدأت بمظاهرات سلمية، فإذا بها تتوسع لتشمل كل المدن، ثم تتوسع لتتحول إلى مواجهات مسلحة مع القوى العسكرية القمعية التابعة لهذه الأنظمة، متزامناً ذلك مع فشل الأنظمة في السيطرة على النقل المباشر لوسائل الإعلام عما يجري في بلدان الربيع العربي، بعد أن تحول كل مواطن باستخدام مواقع التواصل الاجتماعي إلى إعلامي متمكن، يصور الحدث، ويكتب تقريره عنه، ويرسله مباشرة إلى القنوات الفضائية، ولاحقاً ومن خلال جهازه المحمول يتحدث بصوته عن مشاهداته وانطباعاته حول ما يراه رأي العين من تطورات على الأرض بوصفه شاهد عيان.
****
وضمن التحولات التي أفرزها الربيع العربي إعلامياً، فقد صدرت صحف جديدة، وظهرت قنوات فضائية كثيرة، ووفر الربيع العربي مناخاً إعلامياً حراً للتعبير عن اقتناعات المواطنين في كل شأن من شؤون دولهم دون وجل أو خوف، كما حرّك الربيع العربي كوامن الإبداع والمهارات والمواهب الإعلامية لدى كثير من المواطنين، فرأيناهم يقدمون أعمالاً إعلامية إبداعية غاية في الجودة عن الثورات دون أن تكون لديهم سابق خبرة أو ممارسة في هذا المجال، كما أن نجاح الثورات وسقوط رموز الحكام السابقين أنهى - وإلى غير رجعة - تحكّم الأنظمة الجديدة - وإن حاولت- بوسائل الإعلام، بينما كانت الأنظمة السابقة أثناء عنفوان تسلطها على رقاب شعوبها لا تسمح بمن يعارضها إعلامياً أو يقول كلمة لا ترضى عنها.
****
ولا بد من التأكيد على أن قناتَيْ العربية والجزيرة، بإمكاناتهما البشرية والفنية وسعة مشاهداتهما وموقفهما المبكر الداعم لهذه الثورات، كان لهما أبلغ الأثر في صمود الشعوب وبلائها البلاء الحسن في مقاومة هذه الأنظمة؛ إذ من دون هاتين القناتين ما كان يمكن للشعوب الثائرة أن تجد مثل هذه المساندة بهذه المهنية الإعلامية العالية، وما كان للعالم الحر أن يتعرف على حجم التنكيل والبطش والجرائم التي كانت تقترفها هذه الأنظمة إبان حكمها على مدى عشرات السنين، فضلاً عن محدودية تعرفها لولا هاتين القناتين على حجم الدمار والقتل الذي كانت تقترفه الأنظمة خلال مواجهتها لمواطنيها الساعين بشوق وتوق وتطلع إلى نسيم الحرية واحترام حقوق الإنسان والقضاء على أنظمة الفساد ورموزه.
****
وما يمكنني أن أقوله وأؤكد عليه أن العلاقة التي ارتبطت بين وسائل الإعلام والثوار إبان المعارك الضارية مع تلك الأنظمة كانت مميزة ومؤثرة، وقد ظهرت نتائجها حين بدأ انضمام المترددين من المواطنين إلى إخوانهم الثوار، ومشاركتهم إياهم في التسريع بإنجاح هذه الثورات، وبعضهم كان ممن يحسب على أنه جزء من تلك الأنظمة، غير أن المعادلة تغيرت سريعاً، مع تزايد القتل والدمار، وتعامل الأنظمة الحاكمة مع مواطنيها بهذه القسوة واللا إنسانية؛ الأمر الذي لم يسع بقية المواطنين أن يقفوا موقف المتفرج أو المتردد أمام نظام يقتل شعبه ويقمع إرادة مواطنيه.
****
اللافت للنظر في الأنظمة التي تم إسقاطها، - وكما أشرنا من قبل- أنها أنظمة عسكرية وصلت إلى كرسي الرئاسة بانقلابات عسكرية، ومن باب ذر الرماد في العيون، فقد كان يتم انتخابها دورة بعد أخرى وتفوز بنسب عالية تصل إلى 99% من أصوات الناخبين؛ ما يعني أنها انتخابات شكلية، لا تنتهي فترة حكم أي حاكم منهم إلا بالوفاة، ولهذا رأينا كيف أن بعضهم يقضي بالحكم أكثر من أربعين عاماً وآخرين أكثر من ثلاثين عاماً، كما أن من يموت يُورث ابنه كرسي الحكم بعد أن يكون قد هيأه ليصبح جاهزاً بعد وفاته لتولي حكم البلاد، مدعوماً بأعوان النظام والمستفيدين منه في الجيش والشرطة ورجال الأمن.
****
لقد لعب الإعلام العربي دوراً كبيراً في إنجاح ثورات ما يُسمى بالربيع العربي، لكن يُفترض فيه أن يلعب الدور نفسه في تصحيح مسار هذه الثورات؛ حتى لا تخطفها الأنظمة الجديدة، خاصة مع ظهور تململ المواطنين في هذه الدول من ممارسات حكامهم الجدد إثر تجاهلهم للأهداف التي على أساسها قامت هذه الثورات، فضلاً عن أن الوعود التي قطعوها على أنفسهم خلال الانتخابات التي فازوا بها لم يلتزموا بكثير منها؛ الأمر الذي يعني محاكاة الخلف لتجارب السلف من الحكام؛ ما قد يُفسَّر على أنه تجاهل واضح لأصوات ودماء الثوار والاستئثار بالسلطة دون أن يسمحوا بمشاركة قاعدة واسعة من المواطنين فيها؛ الأمر الذي قد يؤذن بتفاقم الأوضاع نحو الأسوأ ما لم يتم تدارك الأمر، وإصلاح ما قد يكون موضع ملاحظة، والاستجابة لتطلعات ومطالب المواطنين.
****
وضمن تداعيات الربيع العربي، لاحظنا بالإضافة إلى أن وسائل الإعلام تمتعت بمساحة كبيرة من حريتها، أن الأنظمة الجديدة في هذه الدول لم تمانع من ظهور العديد من محطات التلفزة والإذاعات والصحف الجديدة غير الحكومية، ضمن توجهها نحو الانفتاح إعلامياً على العالم، لكنها لم تنأ بنفسها عن التدخل باختيار بعض القيادات الإعلامية لها، مما قد يعيق دورها، ويسمح للحكومات بالتدخل في شؤونها، وهو إجراء أثار حفيظة واستنكار الإعلاميين خصوصاً في ظل أنظمة حكم تفتقر في كثير من مؤسساتها وقياداتها إلى الخبرة في إدارة الشأن العام لهذه الدول؛ ما ساهم في أن يصاحب نشاط هذه الوسائل شيء من الفوضى والتخبط، ما يعني أننا أمام إعلام عربي قديمة وجديدة ربما يكون لبعض الوقت غير قادر على التخلص من شبح الأنظمة السابقة التي كانت تمنع عنه هواء الحرية وتحاسبه حين يغرد بما يتعارض مع سياساتها بل وتعاقبه إن تطلب الأمر ذلك.
****
ومن الطبيعي أن يصاحب تغيير الأنظمة الحاكمة في دول الربيع العربي تغيير في تعاطي الإعلام مع المستجدات والتطورات في ظل هذه الأنظمة، ولكن علينا ألا ننتظر من وسائل الإعلام أن تخلو تماماً من تجاوزات في ممارستها لمهنتها، أو أن يكون طرحها خالياً مما يسيء إليها ويعرض سمعتها للنقد من المواطنين، غير أن مثل هذا وقد حدث كثيراً يمكن تفهمه على أنه ضريبة البدء بالممارسة الإعلامية الفعلية بعد سنوات من تغييبها، فالحرية الإعلامية وقد كانت مطلباً وأملاً ملحين قبل الثورات بدأت هكذا بلا ضوابط أو انضباط بعد الثورات، وكأنها تتناغم في هذا مع طبيعة أنظمة الحكم الجديدة من حيث وجود ما يستدعي الملاحظة والنقد على سوء إدارتها لمهامها هي الأخرى.
****
ولا بد من التنويه على أن الإعلام دفع ثمناً مؤلماً وباهظاً بسبب تعاطيه وتفاعله مع الثورات العربية، فقد خسر الكثير من الإعلاميين حياتهم وهم يقومون بأداء واجبهم في مساندة الشعوب التواقة إلى الحرية، وبخاصة في سوريا التي كان نظامها أكثر دموية في تعامله مع الإعلاميين، إذ إن عدد القتلى بلغ خلال العام المنصرم في سوريا اثنين وتسعين إعلامياً بحسب ما رصده مركز الدوحة لحرية الإعلام، في تقرير أشار فيه أيضاً إلى أن النظام السوري فرض عزلة إعلامية على البلاد، ومنع دخول الصحفيين إليها منذ اندلاع الثورة المناهضة لحكمه، إلا أن ذلك لم يمنع السوريين من استخدام كافة الوسائل المتاحة لإيصال أصواتهم ونقل ما يجري في البلاد إلى الخارج، مما جعلهم يتعرضون للقتل والاعتقال على أيدي قوات النظام، وفي تفاصيل أخرى، فإن منظمة (مراسلون بلا حدود) ترى أن التعامل مع الإعلاميين في سوريا يتم بقسوة، وأنهم يدفعون أثماناً باهظة خلال ممارستهم لعملهم في تغطية التطورات على الساحة السورية، بينما تؤكّد منظمة العفو الدولية أن حالات تعذيب تم توثيقها لعدد من الصحفيين بعد أن يتم خطفهم واعتقالهم وقبل أن يتم قتلهم، أي أن الإعلاميين في سوريا يدفعون في هذا البلد المنكوب ثمناً باهظاً بسبب استهدافهم دون أن يجدوا من يحميهم، أو يوفر لهم ملاذاً آمناً إذا ما لاح أمامهم الخطر.
****
وفي شأن آخر، ورغم هامش الحرية المتاح للإعلام العربي فقد رصد مركز الدوحة لحرية الإعلام جوانب ذات صلة بتعامل السلطات الجديدة لدول الربيع العربي مع الإعلام، ففي تونس كانت الحالة مضطربة بالنسبة لوسائل الإعلام بسبب الاصطدامات المستمرة بين الحكومة والصحفيين، وأن إغلاق بعض المؤسسات الإعلامية المستقلة والرقابة والاعتقالات والاعتداءات التي تعرض لها الصحافيون تظهر أن حلم حصول الصحافة في تونس على الحرية الكاملة قد يكون بعيد المنال، خاصة بعد أن مثلت مناقشة البرلمان التونسي بإدخال تعديلات مثيرة للجدل على قانون الصحافة الجديد في البلاد - كما يشير إلى ذلك مركز الدوحة -، ما اعتبر أنه يقيد حرية التعبير، وبالتالي يشكل ضربة قوية في وجه حرية الإعلام.
****
وفي مصر يقول تقرير لذات المركز، إن مستقبل الإعلام في البلاد لا يزال غامضاً، فقد دخلت وسائل الإعلام المحلية في صدامات متواصلة مع حكومة الرئيس مرسي، بسبب تلك التعيينات المثيرة للجدل لرؤساء الإعلام المقربين من الحكومة الإسلامية وفقاً لتقرير مركز الدوحة، وقد قوبل ذلك باحتجاب صحف مصرية عدة عن الصدور؛ تعبيراً عن رفضها لهذه التعيينات وللدستور، لأن الأخير - وفقاً للصحفي المصري ياسر عبدالعزيز - سيكون له أثر سيئ جداً على وسائل الإعلام، كونه يخوّل المحاكم حق إغلاق وسائل الإعلام ويقترح إنشاء هيئات للإشراف عليها دون أن يضمن استقلاليتها.
****
أقول هذا، والجميع يعرف أن الرئيس الليبي السابق معمر القذافي -على سبيل المثال- كان لا يسمح بدخول الصحفيين الأجانب إلى ليبيا، انطلاقاً من موقفه المعادي لحرية الصحافة، وهو مع اختلاف محدود ونسبي مع غيره من الحكام يمكن أن توصف به سياسة أنظمة دول ما قبل الربيع العربي على هذا النحو من التقييم، وبالتالي يمكن أن نتفهم لماذا لم تستطع لا الأنظمة الجديدة ولا الإعلام ما بعد الربيع العربي أن تستوعب مفاهيم الإعلام الحر الذي يحترم أخلاق المهنة ويؤمن برسالتها، ويحرص على تجنب المنزلقات والخروقات والإساءات، ضمن التزامه بدوره المسؤول في تصحيح ما هو خطأ وتقويم ما هو معوج، ضمن مجموعة قيم ينبغي أن تلتزم بها وتحترمها المؤسسات الإعلامية العربية في هذا المناخ الجديد الذي فوجئت به شعوب هذه الدول، وكان على الأنظمة والإعلام معاً أن يحسنوا التعامل معه كما ينبغي.
****
إن فرض السيطرة - حتى ولو كانت جزئية - على الإعلام العربي في ظل أنظمة هشة لم يكن ممكناً، ولهذا رأينا شيئاً من الارتباك وتكرار الأخطاء والتجاوزات سواء في تعاطي الإعلام العربي وتعامله مع المستجدات والتطورات على الأرض أو لدى الأنظمة الجديدة، فمع غياب عامل الخوف من العقوبات مارس الإعلاميون عملاً إعلامياً لا يمكن أن يصنف كله على أنه ضمن دائرة حرية الإعلام وإن بدا كما لو أنه كذلك إذا ما قورن بما كان عليه الحال قبل الربيع العربي، ومن هنا لم أر ما يثير الاستغراب حين طالب اتحاد الصحفيين العرب مبكراً بضرورة تطوير التشريعات الصحفية، لأن من شأن ذلك أن يوفر للإعلام الحرية ولا يسمح له بتجاوز ذلك إلى ما يسيء للآخرين، غير أن ذلك قد يتعذر تحقيقه في ظل أنظمة قمعية كما في السابق، أو في حالة أن يكون النظام الحاكم - كما هو الآن - ضعيفاً وبلا خبرة، ويفتقر إلى العناصر والإمكانات البشرية القادرة على ضبط النظام.
****
ولا جدال بأن الإعلام العربي شهد مع غياب الأنظمة الاستبدادية، وبعد التحول الديمقراطي في دول الربيع العربي شيئاً من الحرية في ممارسته لعمله، غير أن هذه الحرية تبقى ناقصة وغير مكتملة ويشوب الشك استمرارها، وسط عدم الاستقرار السياسي والأمني في هذه الدول، ومحاولة الأنظمة وغير الأنظمة احتواء الإعلاميين، وما يقال من إن الأنظمة الجديدة والأحزاب وكذلك المال تتنافس على شراء وسائل الإعلام مما يكاد أن يحرم الإعلام في دول الربيع العربي حقها في امتلاك إعلام حر ونزيه، من خلال توجيهه بحسب مصالحها وسياساتها، وهي بذلك إنما تفرغه كإعلام مسؤول من قيمته ومن دوره وفي أحسن الأحوال تضعه على الحياد من دون موقف فيكون عندئذ بلا قيمة أو معنى.
****
أما وقد لعبت وسائل الإعلام العربية دوراً مؤثراً في إسقاط الأنظمة في كل من تونس ومصر وليبيا واليمن وقريباً في سوريا، فقد كان على الأنظمة الجديدة أن تكافئ وسائل الإعلام بإعطائها حقها في ممارسة عملها بحرية، دون أن تسمح بما يخل بمفهوم الحرية، أو أن يحول دون الوصول إلى سقفها، غير أن الأوضاع غير المستقرة في هذه الدول ربما أنها لم تسمح بذلك بشكل كامل، مع أن حرية الإعلام كما تقول (روز ماري ديفيس) الناطقة باسم الحكومة البريطانية في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا كما نشر في موقع العربية بأن حرية الصحافة هي حجر الأساس في أي عملية إصلاح سياسي واقتصادي في العالم العربي؛ لأن «السلطة الرابعة» سواء كانت مرئية ومسموعة أو مكتوبة ومطبوعة هي نافذة الناس للتعبير عن آرائهم ووسيلة سلمية مدنية للكشف عن الفساد والانتهاكات كافة، كما أنها قناة تواصل بين الشعوب وصانعي القرار، وإن كل الطرق إلى الإصلاح والنمو والتطور والاستقرار تمر عبر السلطة الرابعة، وكل الطرق إلى الفقر والفساد وعدم الاستقرار تمر عبر القمع.
****
وعلينا أن نتذكر دائماً أن حرية الصحافة -وعندما نقول حرية الصحافة فإن هذا ينطبق على الإعلام المسموع والمشاهد- إنما هو مطلب ليس هناك من يملك حق التنازل عنه، فالجمعية العامة للأمم المتحدة ومنذ العام 1993م اعتمدت الثالث من شهر مايو من كل عام يوماً عالمياً لحرية الصحافة، وأصبح العالم يحتفل سنوياً في هذا اليوم للتأكيد على احترام حرية الإعلام، وأصبحت منظمة «مراسلون بلا حدود» ترصد أي انتهاك لهذه الحرية في أي دولة من دول العالم، وتكتب تقاريرها عن أي اضطهاد لهذه الحرية، غير أن هذا لم يحُل دون ممارسة أسلوب القمع ضد الإعلاميين في دول الربيع العربي بعد سقوط تلك الأنظمة، التي كان يتوقع أن تفتح أبواب الأمل نحو إعلام يتمتع بحرية لم يكن مسموحاً بها من قبل، وبمهنية عالية لم تكن متوافرة له، وبتفكيك كل ما يمكن أن يعيق هذا التوجه أو يكون حجر عثرة في طريق هذا التحول في صناعة الإعلام، غير أن ما كان متوقعاً شيء وما هو واقع شيء آخر.