من تأمل نصوص الشريعة في باب المعاملات الاقتصادية يجدها جاءت في اقتصاديات الزراعة والأنعام والذهب والجهاد والرقيق، وما يتعلق بهذه الأصول من بيوع وتجارة ونحوها. والإقطاعية هي لازم حتمي لهذه الاقتصاديات، حسب سنن الله الكونية في خلقه للسوق. لذا فقد كان النظام الإقطاعي هو المهيمن على الشعوب لدهور من قبل البعثة النبوية الشريفة ومن بعدها. وما جرب أحد الخروج على سنة الله في لزوم الإقطاعية لهذه الاقتصاديات إلا وباء بالفشل، كالمزدكية، والتي كانت تعتبر التطبيق الأول للاشتراكية بعد تنظيرها في فلسفة أفلاطون بمدينته الفاضلة الحالمة.
والإسلام في باب المعاملات -عموما- أتى بمصالح العباد عن طريقة هدايتهم إلى كيفية التعامل مع سنن الله الكونية. وهذا الغرض هو الأصل في نصوص المعاملات، ليس من أجل الاختبار والامتحان كما هو حال الغرض من النصوص الشرعية في باب العقائد والعبادات. ولذا لم تتصادم النصوص الشرعية مع الإقطاعية بل هذبتها ولجمتها بالمواريث عن التفحُش، ووفرت حد الكفاف للفقير بالزكاة، تماما كما هذب الإسلام الرق ولم يمنع العبودية، لأنها كانت حاجة ملحة للنظام الإقطاعي.
وجاء العصر الحديث بالصناعة والألة فخرجت الشعوب عن الإقطاعية إلى الاشتراكية والرأسمالية، وبقت الأمة الإسلامية لأكثر من قرن في معزل عن تغيرات العالم الحديث حتى خرجت الشيعة بدعوى الاقتصاد الإسلامي الممثل في كتاب اقتصادنا لباقر الصدر والذي تلقفه الإخوان المسلمين ونادوا بالاقتصاد الإسلامي من ضمن شعارهم الإسلام هو الحل. وكتاب الصدر -اقتصادنا- حاله كحال أطروحات الاقتصاد الإسلامي -الإخوانية- لا حقيقة لها علمية على أرض الواقع، لا من الناحية الشرعية ولا الناحية العملية. فهي أطروحات بُنيت على مفاهيم خاطئة وحقائق مغلوطة وتحليلات محرفة ونتائج حالمة لا تبعد في خيالها عن خيال مدينة أفلاطون.
الاشتراكية، وليست نصوص المعاملات الشرعية هي التي أتت بالتوزيع للثروات على المفهوم الذي يدندن به مؤلفو الاقتصاد الإسلامي. فقد كان التفاوت في الثروات عظيما في العهد النبوي حيث كان يملك كبار الصحابة كأبي بكر وعثمان وعبد الرحمن بن عوف -رصي الله عنهم- قوافل كاملة بينما لا يجد أهل الصفة -وأكثرهم بدريين- ما يغطون به عوراتهم. وكان أبو هريرة رضي الله عنه يسقط من الجوع مغشيا عليه ويتعرض أهل الفضل لعلهم يدعونه إلى طعام. وقد جاءت بعض الروايات بحكايا خرافية مبالغة عن حجم تركة ثروة الزبير وقت تصفيتها بعد مقتله -رضي الله عنه في الفتنة. وهكذا كان الأمر من بعد، وهكذا هي النصوص الشرعية تثبت هذا. فالضرائب لم يفرضها الرسول عليه الصلاة والسلام وهو في أشد الحاجة إلى تجهيز الجيوش. والزكاة نزر يسير يدور بين 2.5% و1% . وتفسير هذا في اقتصاد رعوي أو زراعي معناه أن 98% من الثروة يملكها 2% من المجتمع بينما يتشارك 98% من المجتمع في 2% من الثروة، وهذه نتيجة حتمية للنظام الإقطاعي. فثروة المجتمع هي مصادره الاقتصادية، وهي محدودة عموما وخاصة محدودية مصادر الرعي والزراعة وحاجة اليد العاملة بكثرة فيهما. فلهذا لا يتسع أن يعيش جميع المجتمع في حالة رفاه وثراء. والذي تتاح له فرصة التملك أكثر من غيره في هذا المجتمع الاقتصادي المحدود، عن طريق إرث أو فيء أو غزو، يتعاظم ثراءه على حساب أفراد المجتمع الآخرين. وذلك بسبب فوائض ثروته عن حاجته والتي سيحاول أن يحصل بها على ممتلكات الآخرين. ولذا جاء الإسلام بتخفيف حدة الإقطاعية بتوزيع الثروة بالميراث وبجبر خاطر الفقير بالزكاة، والتي لا تمثل شيئا يذكر من ثروة الغني ولكنها تمثل حد الكفاف للفقير.
وقد جاء عصر الصناعة والإقطاعية لازم مانع لها، فلا يجتمع الإقطاع مع اقتصاد صناعي متطور لسنن الله الكونية في خلقه للسوق. فلو جاءت النهضة الصناعية على أيدي المسلمين لما كان لها أن تستمر ولا أن تتطور ولازداد المسلمون فقرا على فقر، بكون حال المسلمين على ما هم عليه في جهلهم بدينهم وتبعيتهم لفقهاء مقلدين لفقهاء عصر الإقطاع، وتفصيل هذا في مقال الغد بحول الله وتسهيله.
hamzaalsalem@gmail.comتويتر@hamzaalsalem