شخصية فذة، وإمام من أئمة الإسلام، كان أبوه من سبي جرْجرْ: أيا بلدة من أعمال النهروان بين واسط وبغداد من الجانب الشرقي، تملّكه أنس بن مالك خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم كاتبه على ألوف من المال فوفاه وعمّل له مال الكتابة قبل حلوله، فتمنع أنس من أخذه، لما رأى
سيرين قد كثر ماله من التجارة، وأمّل أن يرثه فحاكمه إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فألزمه تعجيل المؤجل.
قد رفع الله محمد بن سيرين من الرّق، فأصبح أبوه ثرياً من أثرياء المسلمين, وأصبح هو إمام لوقته في علوم الدين بالبصرة، وقد وثقه علماء الجرح والتعديل، وأثنوا عليه، وهذا هو الإسلام لا يفرق بين أبنائه، ولا يعترف بالطبقية وإنما منهجه: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} (13) سورة الحجرات، ولا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى فمن وثقه علمه وفضله ارتفع وقُدّر. ومع ما أثنى به العلماء عليه، فقد قال هشام: حدثني أصدق من أدركت، محمد بن سيرين، ويقول محمد بن عون: ما رأيت مثل محمد بن سيرين، ويقول عثمان البُتن: لم يكن بالبصرة أحد أعلم بالقضاء من ابن سيرين، ويقول مورّق العجلي: ما رأيت أحداً أفقه في ورعه، ولا أورع في فقهه من محمد بن سيرين، وغيرهم قالوا فأثنوا، وأحسنوا فأجادوا التعبير لمن يستحق المبدع، ومع هذه المكانة والثناء، فإنه كان يخاف الشهرة ولا يحبها ولذا فإنه يمتنع عن المجالس مخافة أن يثنى عليه في وجهه فيفتتن، ومع هذا فقد مرّت حادثة جعلت الناس يشيرون إليه بالبنان قال الذهبي: وقد وقف على ابن سيرين دين كثير، من أجل زيت كثير فأراقه لأنه وجد في بعض الظروف فأرة.
وفي هذا الموقف الذي ابتلي فيه، يقول لثابت البناني يا أبا محمد لم يكن يمنعني من مجالستكم إلا مخافة الشهرة، فلم يزل بي البلاء حتى قمت على المصطبّة فقيل: هذا ابن سيرين أكل أموال الناس، لما أصابني من دين كثير.
قال سفيان لم يكن بالكوفة ولا بالبصرة، أحد أورع من ابن سيرين، وكان إذا ذُكر الموت مات كل عضو منه، على حِدَة، ولم يره أحد في السوق إلا ذكر الله.
ومن ورعه أنه إذا سئل عن الحلال والحرام يتغير لونه حتى يقول من يراه كأنه ليس بالذي كان، ومع هذا فقد عرف عنه أنه صاحب ضحك ومزاح، وكان يضحك حتى تدمع عينه، ويغمص الأرض بقدمه.
وفي سبب حبسه قال المدائني، كما قال الخطيب البغدادي في تاريخه، كان سبب حبسه أنه أخذ زيتاً بأربعين ألف درهم، فوجد في زَقّ منه فأرة فظن أنها وقعت في المعصرة، وصبّ الزّيت كله، وكان يقول: إني ابتليت بذنب أذنبته منذ ثلاثين سنة، قال: فكانوا يظنون أنه عير رجلاً بالفقر.
وذكر من مواقفه أن ابن أبي الحديد في كتابه نهج البلاغة قال: كان ابن سيرين قد جعل على نفسه كلما اغتاب أحداً أن يتصدق بدينار، وكان إذا مدح أحداً قال: هو كما يشاء الله وإذا أراد ذم أحد قال: هو كما يعلم الله، وقال أبو نعيم في الحلية: كان محمد بن سيرين يقول للرجل: إذا أراد أن يسافر في التجارة: اتق الله تعالى: واطلب ما قدر لك في الحلال، فإنك إن تطلبه من غير ذلك لم تصب أكثر مما قدر لك.
ولما سئل عن الرجل يتبع الجنازة، لا يتبعها حسبة، بل يتبعها حياء من أهلها، هل له في ذلك أجر؟ أجاب بقوله: أجر واحد، بل له أجران، أجر لصلاته على أخيه، وأجر لصلته الحيَّ، وكان يقول: إذا أراد الله تعالى بعبد خيراً جعل له واعظاً في قلبه يأمره وينهاه، ويقصدُ؟؟ في الحي: يعني مجورته.
وفي سجنه مرّ بموقف يدل على حرصه على السمع والطاعة لولي الأمر، وتعليم من حوله هذا الأدب.
فقد قاله السجان: إذا كان الليل فأذهب إلى أهلك، فإذا أصبحت فتعال: فقال لا والله لا أكون عوناً للشيطان ولا في خيانة السلطان، وقد أوصى أنس بن مالك رضي الله عنه أن يغسله إذا مات محمد بن سيرين، فلما مات أنس كان ابن سيرين في الحبس، فقيل له في ذلك، فقال: أنا محبوس قالوا: قد استأذن لك الأمير فأذن بأن تخرج، قال: إن الأمير لم يحبسني، إنما حبسني الذي له الحق، فأذن له صاحب الحق فخرج وغسل أنس.
وقال ابن عون: كان لمحمد بن سيرين منازل لا يكريها إلا من أهل الذمة، فقيل له في ذلك: ولماذا لا تكريها للمسلمين؟ فقال: لأنه إذا جاء رأس الشهر، رعت المستأجر، وأكره أن أروع مسلماً، وكان محمد بن سيرين مع علمه وورعه، محباً للفقراء، كثير الصدقة عليهم، جريئاً على تعبير الرؤيا، مع فراسة فقلما تخطي جبان في الفتوى، ويعمل في التجارة، فإذا ارتاب في شيء تركه، محباً للمزاح والضحك حليماً، وإذا عرض له أمران في ذمته، أخذ بأوثقهما، وقد نسب إليه كتابان في تعبير الرؤيا، أحدهما له وهو تعبير الرؤيا, والثاني نفاه بعضهم، وهو منتخب الكلام في تفسير الأحلام.
وقد ورد في هذين الكتابين، عجائب من النتائج في تعبير الرؤيا، وفي قص اهتم بها الناس في مختلف العصور، لأن كل إنسان تمر به رؤيا، أو خيالات في منامه، يحب أن يعرف شيئاً عما تدل عليه، من باب حب استجلاء الأمر المغيب مثلما قال الشاعر:
منعت شيئاً فأكثرت الولوع به
أحب شيء لدى الإنسان ما منعا
ولخطورة النتيجة على من فسرت الرؤيا له، مثلما وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: (الحلم من الشيطان والرؤيا من الرحمن، فإذا رأى أحدكم ما يكره فليذكر الله وليتفل عن شماله، ولا يخبر بها أحداً، فإنها لن تضره، ولذا كان لكن بعض الناس لا يهنئوهم الأخبار، والاستطلاع عما تدل عليه هذه الرؤيا.
محمد بن سرين يقول إذا سئل عن الرؤيا: اتق الله في اليقظة، لا يضرك ما رأيت في المنام.
وفي تلك الحكايات التي جاءت في تعبيره للرؤيا ما قال معمر: جاء رجل إلى ابن سيرين، فقال رأيت حمامة التقطت لؤلوة، فخرجت منها أعظم ما كانت، ورأيت حمامة أخرى التقطت لؤلؤة فخرجت أصغر مما دخلت، ورأيت حمامة ثالثة التقطت لؤلؤة فخرجت كما كانت، فقال ابن سيرين: أما الأولى فذاك الحسن البصري يسمع الحديث فيجوده بمنطقه، ويصل فيه من مواعظه، وأما التي صغرت فأنا أسمع الحديث فأسقط منه وأما التي خرجت كما دخلت فقتادة فهو أحفظ الناس.
وقص رجل على ابن سيرين فقال: رأيت وكأن بيدي قدحاً من زجاج، فيه ماء فانكسر القدح، وبقي الماء فقال له: اتق الله فإنك لم تر شيئاً، قال: سبحان الله، قال ابن سيرين: فمن كذب فما عليّ، ستلد امرأتك وستموت ويبقى ولدها. فلما خرج الرجل قال: والله ما رأيت شيئاً، فما لبث أن ولد له غلام، وماتت امرأته، وهذا من القول المأثور: إن البلاء موكل بالمنطق.
ودخل عليه رجل آخر فقال: يا محمد بن سيرين، إني كأني وجارية سواء، نأكل في قصعة سمكة قال أتهيئ له طعاماً وتدعوني؟ قال نعم ففعل، فملا وضعت المائدة إذا جارية سواء، فقال ابن سيرين للرجل، هل أصبت هذه الجارية؟ قال: لا، قال: فأدخل بها المخدع، فدخل وصاح يا أبا بكر رجل والله، فقال: هذا الذي شاركك في أهلك.. وقد جاءت هذه الحكاية العجيبة في ذكاء ابن سيرين وتعبيره الرؤيا: ذلك أن عبدالله بن الزبير رضي الله عنه رأى في منامه، أنه اصطرع هو وعبدالملك بن مروان فصرع عبدالله عبدالملك بن مروان وسمره في الأرض أربعة أوتاد، فلما أصبح بعث رجلاً إلى محمد بن سيرين رحمه الله فسأله عن ذلك.
وكان قد أمره أن لا يعرفه الصارع من المصروع، قال: فلما دنا الرجل من ابن سيرين، وقص عليه الرؤيا، قال له: ما هذه رؤياك أنت، وما يصلح أن يرى هذه الرؤيا إلا عبدالملك بن مروان، أو عبدالله بن الزبير، ثم إن الرجل أنكر ذلك، وقال له: أيها الإمام إنها رؤياي، فقال: له: لا أقص عليك تعبيرها حتى تصدقني قال فعاد الرجل إلى ابن الزبير، وأخبره بما قال ابن سيرين، فقال: أرجع إليه وعرّفه ما رأيت من هذه الرؤيا وقد صدق عبدالملك، فقال له ابن سيرين رحمه الله: عبدالملك بن مروان هو الغالب لعبدالله بن الزبير، وهو قاتله وإن أولاد عبدالملك الأربعة لهم الخلافة من أبيهم، وذلك لتسميره في الأرض بالأوتاد، فكان الأمر كما رأى، فبلغ الأمر عبدالملك بن مروان وأرسل إليه بملك فرفضه.
وقد جاء رجل لابن سيرين فقال له: رأيت في منامي كأني خطبت امرأة ورأيتها سوداء اللون قصيرة القامة: فقال له اذهب فتزوج بها، أما سوادها فيدل على كثرة مالها وحشمها، وأما قصرها فدليل على قصر عمرها، قال فعند ذلك ذهب الرجل إلى المرأة، وخطبها ثم تزوج بها فما لبثت معه إلا أياماً يسيرة، وماتت فورث منها مالاً جزيلاً، فكان كما عبر ابن سيرين.
وقد وزع ابن سيرين كتابه، تعبير الرؤيا إلى خمسة وعشرين باباً، كل باب يتضمن تعبيراً لما يراه النائم، وما يدل عليه كل شيء رآه، ليستطيع أن يأخذ من ذلك أهل الفراسة دلالة في تعبيرهم، لما يفرض عليهم من منامات، ولا يحسن بغير الأذكياء: قراءة هذه الأبواب، حتى لا يضعوا شيئاً في غير محله، وقد أخبر صلى الله عليه وسلم بأن من رأى شيئاً سيئاً فلا يخبر بها أحداً لأنها من الشيطان.
والكتاب صغير يقع في ست وخمسين صفحة من القطع الصغير، وطبع في مصر قديماً، بطبعة رديئة ولا ندري هل طبع بعد ذلك أم لا.
وكان من بين ما ذكر حديثاً لرسول الله بأن الرؤيا من الرحمن والحلم من الشيطان ولكن بعض الناس لا يفرق بين الحلم والرؤيا، وقليل منهم من لا يذكر الله ويقرأ ورده حتى لا يتلاعب به الشيطان حسب ما ذكر في كتابه عن الرؤيا الكاذبة.
mshuwaier@hotmail.com