الصديق العزيز الدكتور جاسر الحربش أوقعنا من خلال مقاليه المنشورين بصحيفة الجزيره فى 15 و 19 من هذا الشهر فى مأزق أخلاقي - أو بتعبير أدق حتى لا يفهمنى أحد خطأ مأزق أدبي. فقد طلب تفضيل نموذج واحد من نموذجين: دبي أم سنغافوره؟
فإن فضلنا نموذج دبي فقد نتهم بحب الإرتخاء والدعه، وإن فضلنا نموذج سنغافوره فقد نتهم بالكذب على أنفسنا.
ولكي لا أغضب أيا من الجانبين - وان كنت أغامر بإغضاب أبى عدي - فإننى أقول بادئ ذى بدء: كلاهما جيد ويستحق الاختيار.
أما لماذا، فهذه هي الأسباب: أولا - تصعب المقارنة بين دبي وسنغافوره ؛ فإن كانتا تتماثلان فى أشياء قليلة فهما تختلفان فى أشياء كثيرة.
وقد أورد الدكتور جاسر بعض الاختلافات، كما فى عدد السكان والتركيبة السكانية والمساحة.
أما الاختلافات الأخرى فى مثل التعليم العالى والصحة والإنتاج الصناعي والمركز المالي فهي بلا شك فى صالح سنغافوره، ولكن مع ذلك تصعب المقارنة والتفضيل، ويرجع ذلك للظروف والعوامل التى أنشأت هذا النموذج أو ذاك وجعلته قابلا للنمو والازدهار.
العامل الأول: عدد السكان والتركيبة السكانية.
وكما ورد فى مقال الدكتور فهناك ستة ملايين فى سنغافوره (60%) منهم من المواطنين الذين أغلبهم - كما هو معلوم - من أهل الصين المعروفين بثقافة العمل العالية.
وهناك فى دبي مليونان ونصف (90%) منهم من غير المواطنين الذين أغلبهم من الهند وباكستان وبنغلاديش ولهم من ثقافة العمل ما يزيد قليلا عما لدينا.
العامل الثانى: التاريخ السياسي.
فإن دبي مشيخة متوارثة ذات جذور قبلية، وإمارة من عدة إمارات متصلة جغرافيا تكون دولة الإمارات العربية المتحده التى هي بدورها جزء من الجزيرة العربية ذات الطبيعة الصحراويه القليلة السكان.
هذا الامتداد الرأسي (تاريخيا) والأفقي (جغرافيا) المتآلف مع البيئة الثقافية مستقر ويتصف بطابع الاستمرارية، فلا يوجد الدافع السياسي أو الجو الثقافي الذى تنطلق منه شرارة النهضة الصناعية والاقتصاد الانتاجي. ولعل الاطلاع على كتاب سمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم (رؤيتى) يعطي انطباعا عن أولويات القيادة فى دبي.
وعلى العكس من ذلك حال سنغافوره.
فهي وإن كانت مدينة واحدة مثل دبي، إلا أنها دولة مستقله لا يربطها بجيرانها غير الصداقة والتعاون وشيء من وشائج ثقافية شرق آسيوية - وإن اختلفت من الناحية الدينية عن جاراتها المسلمة (ماليزيا وإندونيسيا وبروناي).
أما النظام السياسي الحالي الجمهوري فقد تأسس بعد انفصال سنغافوره عن ماليزيا عام 1965م.
وهو نظام برلماني حيث يتولى الحكم الحزب الفائز فى الانتخابات. وهذا فى حد ذاته - إلى جانب الخصائص القيادية - حافز قوي لتنفيذ برامج تنموية واسعة وبناء اقتصاد إنتاجي سريع التطور.
العامل الثالث: الموقع الاستراتيجي.
قد يبدو ظاهريا أن دبي تمتلك موقعا جغرافيا أفضل من موقع سنغافوره. فهي مجاورة لأكبر مراكز إنتاج النفط فى العالم، ويحيط بها دول غنية، وهي أقرب إلى أوروبا من سنغافوره.
ولكن هذه المزايا لا تخلق دولة (أو إمارة) صناعية ذات اقتصاد إنتاجي. فهي على حافة صحراء كبيرة ومواردها المائية قليلة والدول المحيطة بها (باستثناء إيران) قليلة السكان - وإن كانت سوقا مستهلكة.
والصناعات البتروكيميائية لا مستقبل لها فى دبي مع كثافة وجودها فى المملكة العربية السعودية.
وربما لهذه الأسباب هي غير جذابة للاستثمار الصناعي الأجنبي- الذى يتولد عنه صناعة وطنية - إلى جانب انعدام اليد العاملة الوطنية.
ولذا يظل الاستثمار العقاري والاستثمار السياحي وتحسين أو إنتاج بعض الصناعات التركيبية والتجارة الحرة هي طابع الاقتصاد المحلي. ومما يدعم النمو السياحي فى دبي كونها فى موقع متوسط بين أوروبا وجنوب وشرق آسيا بالنسبة للمسافرين جوا.
لكن الأمر مختلف فى سنغافوره؛ فهي كانت موقعا استراتيجيا للنقل البحري وإصلاح السفن منذ مئات السنين.
ثم بعد الاستقلال جذبت الاستثمارات الأجنبية فى المجال الصناعي لموقعها القريب من دول كثيفة السكان وذات اقتصاد متطور (اليابان، الصين، إندونيسيا، ودول أخرى) وعلى طرق بحرية مفتوحة، إلى جانب وجود اليد العاملة الجيدة المحلية والمجلوبة من دول قريبة.
وهذه الاستثمارات قادت إلى نمو صناعة محلية مزدهرة مثل بقية النمور الآسيوية.
لذلك يبدو لى أن نموذج دبي هو الأنسب لدبي، كما أن نموذج سنغافوره هو الأنسب لسنغافوره.
إحداهما تفاحة والأخرى برتقالة.
ثانيا - إننا نحتاج إلى سنغافوره فى نموذجها القائم لأنها تمدنا ببعض أفضل المنتجات الصناعية التى - وإن كانت بعيدة عنا كل البعد، إلا أنها تصل إلينا - وبالخبرة الإدارية والعلمية (انظر مثلا من كان أول مدير لجامعة الملك عبدالله للعلوم والتقنية).
ولكننا نحتاج كثيرا إلى حبيبتنا القريبة منا دبي، لا لكي تصل إلينا بل لكى نصل إليها فتكون متنفسا لنا ولعوائلنا، بعد أن تعسرت المقاصد الأخرى فى لبنان ومصر منذ سنوات وأصبحت أوروبا لا تطاق من الغلاء.
أما بلادنا العزيزه فلا تصلح فى كل الأحوال متنفسا للعائلات بسبب التضييق المبالغ فيه على العنصر النسائي فى العائلة وعدم وجود وسائل الترفيه التى تستمتع بها كل العائلة كالسينما المحتشمة والمقاهى والمطاعم المفتوحة وغيرها.
والسياحة جزء منها ثقافة، ولكن الجزء الأكبر تسلية وبهجة وراحة.
وفى دبي لا توجد قيود على ذلك، ولكنها لا تمنع من يريد أن يقيد نفسه.
فسوف تجد على ممشى الجميره مثلا من يلبس العباءة ويغطى الوجه من النساء، ومن لا يفعل ذلك.
والجميع يسيرون جنبا إلى جنب.
ومثل ذلك فى المجمعات التجارية وغيرها من أماكن التجمع لقضاء الوقت.
والقضية كلها رغبة فى تغيير الجو والمكان والفسحة خارج جدران البيت والتسوق فى أكثر من مكان والحركة الحرة.. إنها (تفرج هم) فى أبسط أشكاله.
هذه الأمور هى أيضا من أسباب ازدهار سياحة المؤتمرات والدورات والمعارض.
فأين نجد مثل ذلك قريبا منا فى غير دبي؟ نعم، نتمنى - بل ونلح - فى أن تعمل إمارة دبي على إعطاء الجانب الثقافي والعلمي والطبي حقه، لأن ذلك مكمل للجوانب السياحية ويقوي مركز دبي فى المنطقة.
إلا إنه حتى بدون ذلك صارت مدينة دبي بالنسبة لنا نموذجا نستشهد به فى نظافة المدينة وأسواقها ودورات مياهها ومرورها ونقلها العام وأمنها وأمانها.
لذلك كله لا تحرجنا - يا أبا عدي - بطلب المفاضلة، حتى وإن كنت تقصد ما الأفضل لبلادنا: نموذج دبي أم سنغافوره.
ولو سألتنا: هل تفضلون النموذج التنموي بمنطقة الخليج أم نموذج كوريا الجنوبية؟ لربما كانت الإجابة أسهل !