يتساءل العديد من طلبتنا في الكليات والعديد من المتتبعين عن جدوى السياسات الاحتوائية التي تقوم بها الدول العظمى في حق دول كإيران مثلا لمنعها من الحصول على الأسلحة النووية؛ ويجهل البعض أن مثل هاته الأسلحة في أيدي أنظمة متهورة بل وأفراد متهورين قد يؤدي ببلاد وعباد المنطقة إلى التهلكة.
وأنصح من أراد التبحر في هذا الباب وترصد أخطار مثل هاته الأسلحة قراءة كتاب مايكل كريبون: “الأمن أولاً... قبل الندم! مفارقات التعايش مع القنبلة”.
فالأقمار الصناعية، على سبيل المثال، تقدم خدمات حيوية لا غنى عنها حين تسهم في إرشاد عربات الإسعاف وسيارات الشرطة إلى وجهاتها بأسرع وقت ممكن بفضل النظم العالمية لتحديد المواقع. كما يتم ربط الأقمار الصناعية بالقوات النووية التابعة للقوى الكبرى بغية توفير منظومة إنذار مبكر عن أي هجمات وشيكة، وتقصي المعلومات الضرورية والحصول عليها، وتحقيق التواصل بين حلقات سلسلة القيادة، صعودا وهبوطا. ولكن في حال تعرض هذه الأقمار للهجوم، أو تحول الفضاء إلى “صالة للتدريب” على الرماية، فإن هناك دولا قد تجد نفسها مهددة إلى الحد الذي يجعلها تفكر في استخدام أسلحتها النووية. وحتى إن هي لم تفعل ذلك، فإن حروب الفضاء يمكنها أن تولد حطاما مهلكا من شأنه تدمير الأقمار الصناعية بصورة عشوائية، وإن قطعا من هذا الحطام، ربما لا يزيد حجم كل منها على حجم كرة الرخام، يمكن أن تنطلق في مدارات لأرضية منخفضة بسرعة تفوق بعشر أضعاف سرعة رصاصة البندقية، ويمكن بوضعها هذا، أن تتحول إلى كارثة مدمرة يمتد أمدها عقودا عدة.
يمكن تشبيه النظام العالمي لمنع الانتشار النووي الذي استغرق إنشاؤه عقودا كثيرة من الزمن، بمشروع لتشييد مبنى؛ ولاشك في أن أسس مبنى كهذا، ستمتد قوتها من قوة التصميم المشترك للدول الخمس المالكة للأسلحة النووية، وللأعضاء الدائمين في مجلس الأمن أيضا... وتتحمل الولايات المتحدة الأمريكية بصفتها القوة العظمى في العالم، المسؤولية العظمى كذلك، إزاء ما يتعلق بصون هذا المبنى والمحافظة عليه، ولو أنها تخلت عن هذه المهمة، لما عاد موقع البناء آمنا. وحتى لو أن واشنطن أدت مهمتها هذه على أفضل وجه، فسيظل لزاما على كل من روسيا والصين وفرنسا وبريطانيا العظمى، تقديم الدعم لهذا المشروع ومساندته؛ ومتى ما حرص أعضاء مجلس الأمن الدائمون الخمسة على توحيد جهودهم وضمان انسجامهم في وجه مخاطر الانتشار النووي، فسيغدو هذا المبنى ملاذا يعول عليه. أما إن هم أعطوا مصالحهم الأمنية والتجارية الوطنية الأسبقية، على هموم الانتشار النووي ومخاوفه، فسيصبح المبنى آيلا إلى السقوط.
ويمكن أيضا، حسب ما يكتبه مايكل كريبون، تشبيه ما يعرف بـ”الجدران الحاملة”، أي التي حملت أكبر الأثقال، بالاتفاقيات والمبادئ والمعايير التي صممت بالشكل الذي يحول دون انتشار الأسلحة النووية. وفي هذا السياق، فإن المعاهدات التي فرضت تعهدات ملزمة قانونا، تمثل هنا الروافد والعوارض الفولاذية التي تُبقي هذا المبنى منتصبا. ولعل المبادئ الأهم، هي تلك التي حددتها معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية، وهي التي تم التفاوض بشأنها عام 1968، وأبرمت وقتئذ تأسيسا على تفاهمين محوريين اثنين: تعهد الدول المالكة للقنبلة بالتخلي عنها، وتعهد الدول غير المالكة لها بمواصلة الامتناع عن امتلاكها مادامت قادرة على قطف ثمار الاستخدامات السلمية للذرة. وفي بادئ الأمر، لم يزد عدد الدول التي وقعت على المعاهدة، على 43 دولة؛ ولكنه ظل يتزايد ببطء. وفي عام 1992، انضمت إليها اثنتان من الدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن؛ هما: الصين وفرنسا. وتعد هذه المعاهدة اليوم، أكثر المعاهدات شمولا لدول العالم، بعد أن دخلت كل الدول أطرافا فيها، باستثناء إسرائيل والهند وباكستان.
لقد أمكن حتى الآن، التحكم في المخاطر النووية، المعروفة منها والجديدة. وفي العصر النووي الأول، سادت رؤيتان رئيسيتان متناقضتان: الأولى مثلث ب “المفارقة الكبرى” التي أطلقها ونستون تشرشل وهي القائلة: إن “الأمن سيكون الطفل القوي للإرهاب، والبقاء هو الأخ التوأم للإبادة”، أما الثانية فهي “الحقيقة المتناقضة” التي عرضها هنري كيسنجر، عام 1960، بقوله: إن “قدرا من الأمن يكمن في الأرقام”. وقد وقف هذان التناقضان التوأمان، وراء توجه القوى العظمى لبناء ترسانات هائلة، كما أن توافر مزيد من “الأمن” النووي، زاد هذين التناقضين حدة، بطرائق عدة؛ فطوال عقود، كانت هناك آلاف الأسلحة النووية جاهزة للإطلاق، لكن أيا منها لم يستخدم في ساحة حرب فعلية.
وقد يصاغ تناقض آخر للتعامل والهواجس الشائعة على نطاق واسع، بشأن الإرهاب النووي في العصر النووي الثاني. وفي الإمكان تصور عدد لا حصر له من الأعمال الإرهابية النووية، ولكن أولها لما يحدث بعد ولله الحمد. ولعل إحدى وسائل الحماية منه -حتى الآن- أن أخطر هذه الأعمال يتطلب توفيرا أصعب للإمكانات والقدرات؛ فإنتاج سلاح نووي واحد - بافتراض عدم شراء قنبلة سليمة صالحة للاستخدام من السوق السوداء- يتطلب تعاونا واسعا بين أطراف كثيرين، وتوافر مجموعة من المهارات المتنوعة، ثم إن الخلايا الإرهابية تعمل تقليديا، بشكل منعزل؛ لتكون أقل عرضة للمراقبة؛ وإذا كشف أمرها أو تم اختراقها، فهي لن تفضح أمر غيرها من الخلايا الإرهابية. ومع أن هذه الممارسات، تجعل من الصعب على الوكالات الاستخبارية وأجهزة فرض القانون، كشف ما يحاك من خطط سرية، فإنها - أيضا- تضاعف على الجماعات المتشددة مصاعب بناء قنابل نووية. ومن المؤكد أن امتلاك المواد والمعدات التي تدخل في صناعة القنابل “القذرة”، بات ممكنا بشكل غير مشروع؛ ولكن هذه المواد والمعدات تسبب إحداث أضرار أقل بكثير من تلك التي تحدثها عمليات إرهابية تستخدم فيها كميات هائلة من المتفجرات التقليدية؛ ولعل هذا هو السبب الذي يدفع المنظمات المتطرفة إلى عدم التفكير حتى اليوم، في استخدام قنابل “قذرة”.
إن الغريزة الإنسانية كما يكتب عن حق مايكل كريبون، وهي التي تدعو البشر إلى المسارعة لتوخي الأمن، بدلا من عض أصابع الندم لاحقا، طالما سعت للتوفيق بين غايات متقاطعة؛ فطلب الأمن قد أفضى إلى الإفراط في الحذر؛ والإفراط في الحذر قاد إلى بناء ترسانات نووية ضخمة. ولقد ركب جورج بوش، وأركان حلقته الداخلية المقربين، أخطارا كبرى، عندما قرروا غزو العراق لمنع صدام حسين من امتلاك أسلحة نووية، غير أن سعيهم لضمان الأمن، ولد كثيرا من مشاعر الأسى والندم؛ وإذا كان العامل الإنساني قد استثار “قانون مورفي”، فإنه أسهم أيضا، في الحيلولة دون تفجر كثير من الأزمات الحادة بشكل “سحب نووية”؛ وإذا ما عاد الماضي؛ ليصبح فاتحة تمهد لأحداث لاحقة، فلنا أن نتوقع أزمات حادة كبرى، ترتبط بالإرهاب النووي، ولا سيما حال تخلف أداء البرامج التعاونية للحد من التهديدات.
لذا نفهم صيحات المنظومة الدولية ودول الخليج بالخصوص فيما يتعلق بالسلاح النووي الإيراني... فالتاريخ النووي، حافل بالمفارقات، والمستقبل يخبئ المزيد منها سواء ما هو مهلك منها أو ما هو غير ذلك. ومهما يكن من أمر، فإن الممر الآمن خلال العصر النووي الأول، قد تطلب الثبات واستيعاب الدروس من الأخطاء المرتكبة، والحكمة قبل كل شيء. ولا ريب في أن إيجاد ممر آمن، خلال العصر النووي الثاني، سيقتضي الاعتماد بشكل أكبر، على كل هذه العوامل، وإلا فإن البشرية ستعاني ويلات أناس ضالين ومضلين.