قال أبو عبدالرحمن: ذكرتُ في إحدى المناسبات القيمة التي هي سعادةٌ لا تحصل بتغييب اليقين ولم أُعرِّف بها، والآن أوانُ ذلك؛ فمنذ تشبثتُ بالعلم، وتشتت بي الفضول وحب الاستطلاع إلى ثقافات متعددة مع احتفاظي بعدد من التخصُّص لا بأس به إلى هذه اللحظة - وقد سلخت النصف الأول من العِقد الثامن -: لم أجد شيئاً ألبتة أُسميه قيمة
...
ومعياراً غير (الحقِّ)، ونستوعب معرفة الحق بمعرفة نقيضه، فنقيضه الأول من ناحية (موجود، وغير موجود) الباطل؛ فكل دعوى بوجود شيء في نفسه، أو بوجودٍ فيه كصفة أو خصِّيصة: فإما أن ينفيها البرهان فتكون باطلاً غير موجود، وإما أن تكون بلا برهان فيكون الإثبات أو النفي باطلاً؛ لأن من الباطل الافتراء، ومن أثبت أو نفى بلا علم فقد افترى ودخل في الباطل من أوسع أبوابه.. والنقيضُ الثاني للحق الضلالُ اعتداداً بالسلوك المتعلِّق بتغييب الحق؛ فوجود الرب سبحانه وتعالى على الوحدانية بكل صفات الكمال والتنزُّه عن النقائص: حق لأنه وجود ثابت، والشرع الذي أنزله الله - بعد صحته ثبوتاً ودلالة - حق؛ لأنه وجود ثابت، وهو يدعو إلى نهج السلوك الذي يوصي به الحق الثابت؛ فتغييب الحق، وسلوكُ غيرِ ما يوصي به ضلال؛ وذلك الضلال نقيض الحق؛ لأنه جَحَدَ وجودَ المشروع من السلوك، وعاند توصيةَ الشرع، وقد ذكر الله هذين النقيضين بهذين الاعتبارين؛ فقال تعالى عن أهل الكتاب {وَلاَ تَلْبِسُواْ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُواْ الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} (سورة البقرة 42)، وقال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} (سورة لقمان 30)؛ فدعوى إله غير الله يستحق العبادة؛ لأنه يملك النفع والضرعلى الوحدانية في القدرة، ولأنه ذو الكمال المطلق والتنزه المطلق على الوحدانية أيضاً، أولأنه مشارك لله في ذلك: دعوى باطلة؛ لأنها تدَّعي ما لا وجود له؛ فهذا عن الباطل، وأما النقيض الثاني فجاء في قوله تعالى: {فَذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} (سورة يونس 32)؛ فجاء الضلال نقيضاً للحق بالنظر إلى السلوك الذي يوصي به الحق.. ألا ترى أن العُهْرَ موجود ثابت في البشرية، وتحكم بأنه غير حق بحكم الشرع والعقل، وتحكم بأنه وجود باطل لا من ناحية ثبوت وجوده، ولكن من ناحية الحكم في وجوده؛ وذلك كله ضلال في السلوك، فهو غير حق؛ لأنه نقيض السلوك الذي يثبته الحق.. والباطل والضلال معنيان مُختلفان في حقيقة اللغة، ولكن بينهما تلازمٌ في مجاز اللغة وحُكْمِ الشرع والعقل؛ فالباطل يعني انتفاءَ وجودِ شيء بإطلاق، ويعني ضلالاً موجوداً تنتفي عنه صفة الوجود الحقِّ المعتدِّ به شرعاً.. وإزالة الشيء بعد وجوده إبطاله؛ وذلك مجاز من الباطل بمعنى غير الموجود؛ فبإزالته أصبح غير موجود.. والضلال شرٌّموجود، ولكنَّ وجودَه نقيضُ الهداية التي أوصى بها الحق؛ فوجوده سلوك باطل بما صدر عن الحق من أحكام، وهو سلوك ينتهي بصاحبه إلى عدميَّاتٍ يجدها في نفسه يفقد بها سعادته كالقلق والانتحار والاستلاب، ولهذا جاء التناوب بين الباطل إزالة ونفياً والضلالِ في مواضع، وبيَّن النص الشرعيُّ الحقِّ ثبوتاً والحق إثباتاً كما في قوله تعالى: {لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ} ( سورة الأنفال 8)، وقال تعالى عن الحق وجوداً وحُكماً وعن أوان وقوع الوعدِ به: {فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} ( سورة الأعراف 118)، وقصَّ الله قول موسى عليه السلام: {فَلَمَّا أَلْقَواْ قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُم بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللّهَ لاَ يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ} (سورة يونس 81)؛ فالسحر ثابت الوجود، وهو باطل حكماً، والله سيبطل ما أوجده السحرة بإزالته، وقد تابوا وآمنوا رضي الله عنهم وصبروا على بطش فرعون لعنه الله.. والضلال سلوك ويَرِدُ بمعنى الاعتقاد تجوُّزاً كما في قول إخوة يوسف لأبيهم يعقوب عليهما السلام: {قَالُواْ تَاللّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلاَلِكَ الْقَدِيمِ} (سورة يوسف 95) يعنون اعتقاده اليقيني بتعليم الله إياه أن يوسف على أحسن حال، وأن الله سيريه إياه.. والضالُّ مَن سلك ما فيه هلاكه عاجلاً أو آجلاً؛ فحكمه حكم من أضاع رشده؛ وبهذا اللزوم جاء الضلال بمعنى التضييع كما في قوله تعالى: {وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ} (سورة الأنعام 94)، وقوله تعالى: {وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} ( سورة الأعراف 53).. وبعد هذا أذكر حالة ما بين (عدم العلم) عند خروجنا من بطون أمهاتنا وما بين بداية تحصيل العلم، وذلك هو (الغريزة)؛ فذلك يدل عليه عموم قوله تعالى فيما قصه من قول موسى عليه السلام: {قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} (سورة طه 50)؛ فالغريزة من هداية الله الكونية، وهدايات الله الشرعية والكونية متعدِّدة، وقد اهتممتُ بتحقيقها في غير هذا الموضع.
قال أبو عبدالرحمن: صح بهذه الجولة أن ابتداء القِيَم والمعايير يكون بحصول العلم من براهين العقل بمصادره الحسية حصولاً يحتضنه القلب اعتقاداً.. وهناك معاييرحصول العلم، وهناك معايير ما حصل بالعلم.. ومعايير حصول العلم نفسه ليس هو موضوع حديثي الآن، وإنما أذكر موجزاً لذلك أن المعيار الأول الجامع هو ما حصل من صفات وعلاقات وفوارق هُوِيَّات الأشياء التي شاهدها الفرد بحسه، أو علم بها من مصادر حسه كعلمه بالوصف من مصادرَ علميةٍ مثل الذي يتأدَّى إليه سماعاً ووصفاً بالتواتر؛ فصح أن (مبدأ الهُوِيَّة) هو المصدر الأول لتحصيل العلم، وعنه يصدر مبدأ آخر هو (مبدأ العلم بما هو عدم)؛ لأن كل الهُوِيَّات التي عرفتها، أو علمتها بالاستنباط، أو علمتها بمن يوجب العقل تصديقه: تُحيل على عقلك تصوُّر نقيضين اجتمعا أو افترقا، وتُحيل على عقلك تصور ضدين اجتمعا.. واستقراء البشرية للهويات وجوداً وفناءً وصيرورة أنتج مبدأً ثالثاً هو (العِلَّة الكافية)، ويحيل عقلك تصوُّرَ وجودٍ بلا مُسبِّبٍ كافٍ هو الأول بلا بداية؛ ذلك أن العقل والقلب معا غير قادرين على تجاهل العلم؛ وإنما يقدر العقل وحده إذا تخلَّى عن إرواءِ ظمأ القلب: أن يصنع باطلاً بالأغاليط والخيال، ويستطيع اللسان أن يُعاند، ويظل القلب (وهو مجمع الانفعالات) على التكذيب؛ ومِن ههنا يكون تراكم منغِّصات القلق في نفسية المتعمِّدِ التضليلَ؛ وبهذا يكون علم العقل بمصادره وصدقه مع قلبه: إما إثباتاً للمتعيِّن، وإما نفياً للمحال، وإما ظنَّاً عن رجحان يوجب العلم والعمل ما ظل الرجحان قائماً، وإما ظناً يقتضي احتمالاً لا مُرجِّح له، أو احتمالات لا مُرَجِّح لها ولأحدها أو لبعضها؛ فذلك (عدم علم) يقتضي التوقُّف؛ لأنه محرم في الشرع والعقل الحكم بغير علم.. وأما معايير ما حصل بالعلم - وهذا هو موضوع حديثي - فمبدؤُه وجِماعه (معيار الحقِّ) الذي هو اعتقادٌ علميٌ بوجودِ شيئ أو انتفاء شيئ.. وهذا العلم ما ظل اعتقاداً علمياً يكون نِيَّةً في القلب تُوجِّه سلوك الإنسان، وبالنظرالعقلي التجريبي وُجِد أن السلوكَ المنتفِعَ بما علمه من الحق ذو صفتين: الصفة الأولى صفةُ سلوكٍ آمِنٍ من الشرور التي يُحدِثها الفرد لنفسه بحريته، وذلك هو (معيار الخير)، وسلوك صدر عن الأمن بمعيار الخير، وهو السعادة والغبطة والاستمتاع، وذلك هو (معيار الجمال).. ومهما تعبتَ في الاستقراء فلن تجد معياراً ثالثاً هو من اعلم واعتقاده لا يصدرعن هذه المعايير الثلاثة؛ فالعدل قيمة، والصبر قيمة والإيثار قيمة، والمعادلات قِيَم كالمعادلة بين العاجل والآجل، والنافع والضار، والمعادلة بين المصلحة الصغرى والمفسدة الكبرى.. وكلُّها بلا استثناء مُشْتَقَّة من القيم الثلاث المذكورة آنفاً، وأضرب المثال لذلك بالصبر بأنواعه المختلفة كالصبر على تحصيل العلم، والصبر على شظف العيش، والصبر عن تلبية الغرائز والنوازع التي تنتج شروراً عاجلة أو آجلة؛ فكلها من القيم الثلاث؛ فالصبرعلى تحصيل العلم شجاعةٌ من فضائل الأخلاق (الخيِّرة)، وعقباه تحقيقُ وجودٍ حقٍّ مُعْتَدٍّ به نافعٍ صاحبَه ونافعٍ بني جنسه، وهكذا الصبرعلى شظف العيش مع التعب في تحصيل البُلْغة، والصبرعلى تلبية الغرائز المُرْدِية.. كل ذلك من قيمة الخير؛ لأنه شجاعة وقُدوة حسنة، وهو من قيمة الحق بقوى العقل التي توازن بين الغرائز، وتلبِّي حاجة الغرائز الخيِّرة التي تعوِّض عن طفْح الغرائز الشرِّيرة.. والجمال بكل مفرداته التي تُكَوِّن مفهومه كالمتعة، والروعة، والدهشة، ولذة الابتكار، ولذة الجديد، وطردِ السأم: كل ذلك سلوك يكون قيمةً جمالية بشرط (الجلال) من قيمة (الخير)؛ فإن كان ضد القِيَم فهو قُبْح، وإن لم يحقِّق خيراً للناس والحياة، أو لم يحقق مردودُه من نشاط النفس استعداداً لعمل نافع: فذلك لهو وعبث وغياب وهروب وتضييع، وكل ذلك ترفضه القيم؛ فهذا مرفوض سلباً، وما كان ضِدَّ قيم الخير فهو إيجابيُّ الشر، وإلى لقاء عاجل إن شاء الله، والله المستعان، وعليه الاتكال.
- عفا الله عنه -