قبل أن نُدرِك دور وزارة الإسكان التنموي، كنا شُهداء على أعظم مشروعات التنمية السكانية المتكاملة في المملكة، كانت الهيئة الملكية للجبيل وينبع مسؤولة عن إدارة مشروع إنشاء مدينة الجبيل الصناعية، وتحويل رمالها الصفراء إلى مدينة عصرية حديثة جمعت بين التخطيط المدني، ومشروعات الإسكان النموذجية، والمشروعات الصناعية الطموحة.. وصُنِّفَت المدينة ضمن أكبر مدن الصناعات المتخصصة في العالم، لم يبعدها هدفها الصناعي عن الأهداف التنموية الأخرى، فجمعت بين مشروعات الإسكان، التعليم، الصحة، تخطيط المدن الصناعية والسكنية وإدارتها بكفاءة منقطعة النظير.
أصبحت المدينة أنموذجاً في التنمية الحديثة، وشاهداً على قدرة الفكر الإداري، التخطيط الإستراتيجي، والتطوير الشامل على تحويل مدن المملكة إلى مدن عصرية تضاهي بجمالها المدن الغربية.
من أهم أسباب نجاح الهيئة الملكية تطبيقها النظام الشامل في التطوير، فهي مسؤولة عن مساحة جغرافية محددة، تمثّل حدودها الإدارية والتنموية، وتتعامل معها تعامل المالك في ملكه، فتقمصت دور الرئيس التنفيذي في الشركة، وأدارت التنمية فيها على أسس اقتصادية.
بدأت الهيئة في إنتهاج التطوير الشامل، لاستقطاب المستثمرين ولتوفير البنى التحتية والدعم اللوجستي للقطاع الصناعي، ثم تحولت إلى التطوير الأولي وتركت التطوير الثانوي للمستثمرين الذين تسابقوا للحصول على الفرص الاستثمارية الواعدة.
تجربة الهيئة الملكية الناجحة في قطاع الإسكان، وتخطيط المدن وبنائها، ألبستها قبعة وزارة الإسكان قبل إنشائها، وقبعات أخرى تُمثّل وزارات التعليم، الطرق، البلديات، الصناعة، والصحة ما جعلها أكثر تمرساً في التنمية، وأكثر دقة في الإنجاز، وأعظم تحقيقا للربحية الاستثمارية والتنموية.
اليوم، تخوض وزارة الإسكان تجربة وليدة في التنمية السكانية، وتسعى جاهدة لمعالجة أزمة الإسكان التي تسببت وزارات مختلفة، وقصور التخطيط في تعاظمها، وأصبح وزيرها الطموح الدكتور شويش الضويحي يصارع الأمواج العاتية والرياح التي تهب عليه من كل جانب لإنقاذ سفينته، ومن فيها والعبور بها إلى بر الأمان.
قد يكون من المناسب لوزارة الإسكان استنساخ تجربة الهيئة الملكية للجبيل وينبع في تطوير المدن وبنائها، اختصاراً للوقت وتوفيراً للجهد، وضمان للجودة، وبخاصة تجربتها في الجبيل الصناعية، وأحسب أن تحول الأراضي الحكومية من وزارة الشؤون البلدية للـ «إسكان»، يُمثّل بداية التصحيح، وأولى خطوات النجاح.
ولكن ينبغي الإشارة إلى أن وزارة الإسكان تواجه حالياً تحديات جَمَّة في إنجاز هدفها الأول المتمثّل في بناء 500 ألف وحدة سكنية، ما يعني أنها ستعاني كثيراً بعد تحميلها هدف التخطيط والتطوير للمدن والضواحي السكنية الجديدة.
إدارة وزارة الإسكان لمشروعات التطوير والبناء أكثر جدوى من انغماسها فيها، فبناء 500 ألف وحدة سكنية في مدة زمنية قصيرة قد يكون عسيراً، ولكنه سيكون سهلاً على شركات البناء والتطوير المتخصصة، كما أن تطوير الأراضي وإيصال الخدمات لها سيكون أكثر سهولة على الشركات العالمية المتخصصة، وهذا ما حدث في الجبيل الصناعية، حيث تولت الهيئة الملكية إدارة التنمية، وأسندت عمليات التخطيط والإشراف والتنفيذ في المراحل الأولى للشركات العالمية المتخصصة، وعلى رأسها بكتل العالمية، فتحوّلت المدينة إلى أنموذج متكامل للمدن العصرية.
استنساخ تجربة الهيئة الملكية في التطوير والبناء أمر غاية في الأهمية، فالنجاح المحقق في الجبيل يمكن استنساخه في جميع مدن المملكة طالما أن وزارة الإسكان تملّكت الأراضي السكنية التي يمكن تحويلها إلى مدن وضواحٍ جديدة.
يُمكن لوزارة الإسكان بناء مدن وضواحٍ مشابهة للجبيل الصناعية في جميع مناطق المملكة شريطة انتهاج الأسلوب العالمي المُطبق فيها.
نحن لا نريد أحياء، ومشروعات إسكان تقليدية، بل عصرية يتم إنجازها وفق مدة زمنية قصيرة، وجودة عالية، وفق مخططات الأحياء النموذجية.
تطوير الأراضي الشامل يجب أن يكون الهدف الأول للوزارة، فأزمة الإسكان الحالية سببها عدم توفر الأراضي المطورة لا كلفة البناء، ومن هنا تظهر أهمية تطوير الأراضي والأحياء مكتملة الخدمات، وتحديد المدة الزمنية، وانتقاء الشركات العالمية المتخصصة.
وفيما يتعلق بالبناء، أقترح على الوزارة تجزئة مشروعها الضخم إلى خمسين مشروعاً سكنياً على مستوى المملكة بحيث يضم المشروع الواحد 10 آلاف وحدة سكنية، ويوزع على 50 شركة عالمية، وبعض الشركات الوطنية القادرة على الإنجاز.
ستضمن الوزارة الإنجاز السريع والجودة، وخفض مخاطر التعثر، وستضمن أيضاً نشر ثقافة البناء العالمية بحكم مشاركة الشركات المحلية للشركات العالمية وبما يضمن تطوير قطاع البناء والتشييد المحلي.جمعت الهيئة الملكية للجبيل وينبع بين التجربة الرائدة والعلم، وخَرَّجَت كفاءات متمرسة في مجالات التخطيط الإستراتيجي، والتطوير والبناء وتشييد المدن وإدارتها، وكم أتمنى أن يضم فريق العمل التنفيذي في وزارة الإسكان الوليدة بعض هذه الكفاءات النادرة التي تُمثّل أصولاً استثمارية للوطن.
f.albuainain@hotmail.com