للماغوط استفهامٌ معبر وجهه لذُرى «قاسيون» حيث أطلَّ «خليل خوري» يومًا على وطنه فرأى»دمشقَ تعانق السحبا»، ولم يعش ليرى مطرها شُهُبًا ولهبًا؛ تمامًا مثلما ودعها «البدويُّ الأحمر» حين وضع رأسه على كتف الجبل الأشم ليجلو همَّه وتساءل مستشرفًا ما سيأتي: على كتف مَن يضع قاسيون رأسَه إذا تعب؟
* مات الماغوط ولم يكن يعنيه الموت بل ما يموت فينا ونحن أحياء، وقد مات ضميرُ الحاكم وكرامةُ المحكوم؛ فكأنه يرثي الجبلَ الشامخ المحاصرَ بين النار والنار، أو لعله يرسم مسارًا تتحد فيه ثلاثية «الزمان والمكان والإنسان» فتتعانق الحاجةُ مع الموقف والظرفُ مع التكيف والوعدُ مع الغد.
* لم يلقَ مَن يُلقي إليه همومه؛ فصار المكانُ وحيدًا يستوحشه الإنسان ويهمله الزمان، وانحسر العقد عن عناقيد الجلاد تُجزِّئُ المتحد إلى حبات رملٍ متناثرةٍ لا تلتئم فلا يعود الكتفُ مريحًا ولا الرأسُ مستريحاً.
* لله ما صنع الجبروت بذرات الثلاثية «الشامية» فاغتال واحتال واستباح وأباح، ولم يعد الجبل شاهدًا بل شهيدًا غاب بكَّاءوه فاستجار ولم يُجرْ، واستثار ولم يثأر، وحنَّ فأن، وغاب المكان في تفاصيل الألم واتسع الجرحُ لمساحات النسيان.
* سنحلم قريبًا بارتقاء قاسيون المحرر لنستعيد مع ناسه على لسان شاعرِه الخوري: «سوريةٌ عادت مطهرةًًً.. تاريخُها بدمائنا كُتبا»، ونستودعه عدل الله وحكمته، ونعود منه فيشرق الحنينُ للأماكن ذات الذِّكر والذِّكرى التي نألفها زمنًا ثم نفتش عن وجوهنا فيها فلا نراها؛ فقد امتدَّ فوقها غطاءٌ أسودُ حجب عنها الشمس وصادر منها الأمس.
* تبدو الجفوة بين مفردات «الثلاثية» عامة؛ فلا الإنسان متصالحٌ مع المكان، ولا المكان مطمئنٌ إلى ما يصنعه به الإنسان، والزمان منتهبٌ ممن يكتبه فيَحرفه عن مساره ويُحرقه في إساره، ونبدو بلا هُويةٍ ترتسم عليها ذاكرةُ الإرث العميق.
* قد نفهم خصام الإنسان للإنسان؛ففي بني آبائنا وأعمامنا من يسكنهم التكهفُ ويقودهم التزلف فيُعادون وينادون وفق مصالحهم الأنويةِ الضيقة ممن تمتلئُ بهم الأمكنةُ والأزمنة، ويمثلون الصورة البائسةَ للتركيبة المجتمعية التي أثارت شكَّ المتنبي حين توجس شرًا من أصفيائه لعلمه «أنهم بعضُ الأنام».
* هؤلاء سماتٌ قاتمة لا حلَّ لهم أو معهم؛ ليبقى خصامُ الأمكنة وعقوقُ الأزمنة ظاهرةً تثبت جور الإنسان على أرضه وتأريخه وناسه نافيةً من الأرض العدالة المطلقة، وقاصرةً مدار التغيير على البحث عن عدالة نسبيةٍ تفي للمجرد «وهو الزمن هنا» بعض حقه وللملموسِ «الذي هو المكان» شطر حقيقته.
* أحيانًا نحس بحميمية المكان أكثرَ من الإنسان، ويجتذبنا ساكنو التأريخ كما لا يصنع الجارُ الجُنُب، ويجيئ التنكر للمكان والزمان فينبتَّ الإنسانُ عن مسافاته ومساحاته ويبدو دون محدداتٍ تصله وتفصله، وتدنيه وتنأى به، وتخلف موعدًا قدريًا مع تفاعلات الماء والطين؛ فيمتد السراب واليباب في دوائرَ قطرُها استفهامان لم يطرحهما الماغوط؛ فمن نكون؟ وإلى أين نحن سائرون؟
* الإنسانُ مُعمرٌ ومدمِّر.
ibrturkia@gmail.comt :@abohtoon