قالت لي السيدة السورية العاملة في أحد المشاغل في هدوء: والدي جاء إلى هنا قبل خمسين عاماً، وُلدتُ هنا وترعرعتُ وتزوجتُ وأنجبتُ.. وهاأنذا أعد لتزويج أبنائي وهم لا يعرفون إلا هذا البلد، كيف يمكن أن أرمي كل هذا التاريخ خلفي؛ لأن صاحبة المشغل في حال نقلت كفالتي لها وقررت أن تستغني عني لعاملة أرخص، أين أذهب؟
الأخرى تبكي وهي تقبع مرة أخرى وراء أسوار المنزل: أعمل في المشغل منذ خمسة عشر عاماً، وأنا على إقامة زوجي. ما الخطأ في ذلك؟ لا أستطيع نقل كفالتي للمشغل؛ لأنني مرتبطة بزوجي، فمتى غادر سأغادر، لكني لا أضمن المشغل الذي يمكن أن يستغني عني في لحظات، فأخسر بيتي وزوجي.
هذا الزلزال الكبير الذي اقتحمنا فجأة ومن دون سابق إنذار ومن دون تطبيق تجريبي على بعض المنشآت الصغيرة والكبيرة، هل يمكن فقط إعادة التأمل فيه؟
لا يمكن لأحد أن يشكك في نوايا الحملة الأساسية والبعيدة؛ فأهل كل بلد أحق بثماره، ويجب - وفي كل الأحوال - تشجيع بل إرغام المؤسسات صغيرها وكبيرها على الالتزام بالسعودة، وإعطاء الفرص للقادرين منهم، حتى لو كان ذلك يعني رفع التكلفة عليهم، الذي بالضرورة سيقلص من أرباحهم، وهذا ما يدفعنا إلى ضرورة المناداة بحملة توعية بين الناجحين من رجال الأعمال وسيداته (هناك بالمناسبة الكثير من الراسبين ولا تستمعوا فقط لقصص النجاح؛ فخلف كل قصة منها عشر قصص فاشلة)! إذ يحتاجون لحملة توعية توضح نسب الأرباح العالمية التي يتوقعها أي مشروع؛ فلا يمكن تحقيق هذه الأرباح الهائلة على ظهور عمالة رخيصة دون المشاركة في دفع الثمن الوطني.. معظم المشاريع الراسية حول العالم تكتفي بنسب أرباح سنوية في حدود 12 % إلى 20 %، في حين يطمع تجارنا هنا في تحقيق الضعف لرأس المال، حتى في بداية سنوات الإنشاء، وهو الأمر الذي يتعارض مع النمو الطبيعي والاستقرار لأي اقتصاد.
نعرف أن القرار مدعومٌ ببرنامج نطاقات، الذي ساهم بالتأكيد في إرغام أصحاب الأعمال على تنوعهم لإعادة النظر في عمالتهم، وترتيب أمور بيوتهم الداخلية. وحسب الإحصاءات التي نُشرت في الجرائد المحلية فإن أكثر من 30 % من المنشآت بدأت في التفكير الجدي في سعودة وظائفها، لكنه في الوقت نفسه أضر بالكثيرين والكثيرات، سواء من السعوديين المالكين لمنشآت، خاصة الصغيرة منها، وكذلك بعض المؤسسات ذات الطابع غير الربحي كالجمعيات والمنشآت التعليمية والعالمية. وسأركز هنا على المنشآت التعليمية لقربي من هذا المجال، وتعرفي من الداخل على بعض (مطباته وقلقه).
تعتمد المدارس والمؤسسات التعليمية على الكثير من الوظائف الداعمة؛ فليست فقط وظيفة المعلم أو المدير أو مساعديه هي المتاحة أو المطلوبة في هذه المؤسسات؛ هناك عشرات من الوظائف المساندة لعمل المعلم والإداري، ولا تتطلب التخصص، مثل السكرتارية والصيانة والتنظيف والمتابعة والكمبيوتر والأعمال الفنية والوظائف البديلة (لمعلمة في إجازة ولادة أو مرض مثلاً)، التي تشغلها في معظم الأوقات عمالة نسائية، توجد في البلد برفقة الأزواج، ويتم الاستفادة من خبراتهن السابقة عن طريق ما يسمى بالتوظيف المحلي الداخلي، دون تكلفة استخراج التأشيرات ودفع الرسوم السنوية والتجديد وتوفير السكن والمواصلات والتأمين الصحي والتذاكر السنوية.. إلخ، وكلها تكاليف سترفع التكلفة على المستهلك، وهو المواطن، مع تعقد العمليات الإدارية؛ فجلب عمالة خارجية واستخراج فيزها عملية معقدة إدارياً، وتأخذ أشهراً حتى تتم (من ستة إلى عشرة أشهر في العادة)، فكيف ستضمن سير العملية التعليمية؟ كما أنها وبشكل رئيسي ستحرم البلد من الاستفادة من أشخاص هم موجودون أصلاً برفقة من هم على كفالته!
أحوال المدارس والتعليم مختلفة عن غيرها؛ فأنت هنا لا تتكلم عن عمالة هاربة ومتسيبة وتعمل في الخفاء، (على الأقل في معظم الأحوال) أنت تتحدث عن عمالة موجودة بشكل قانوني برفقة من هم على كفالتهم، وما نحتاج إليه هو تنظيم أحوالهم بدلاً من تهديدهم وإقلاق المدارس وتهديد العملية التعليمية التي لا تزال تنزف بسبب هذا القرار (الكثير من المدارس الخاصة لا تدرس الآن عدداً من المواد، وتختصر يومها الدراسي، هذا طبعاً غير الإقفال النهائي الذي حدث في بدايات تطبيق القرار قبل شهر تقريباً).
هذه الطاقات النسائية والرجالية على مختلف الأصعدة والموجودة أصلاً برفقة كفلائها تحتاج إلى تنظيم مثلما هو معمول به في الكثير من الدول، مثل الإمارات العربية المتحدة؛ إذ تعطي هذه الحالات إذناً بالعمل من الحكومة مع بقائها تحت كفالة من جاءت برفقته، وهذا سيساعد الحكومة على ضبط معلوماتها المتعلقة بالعمالة الوطنية والخارجية، كما سيُدخل هذه المؤسسات في مستوى آخر ضمن برنامج نطاقات للسعودة، وسيفرض عليها مزيداً من العمل لكي (تبيض) وجهها أمام الحكومة.
بقي أن نقول إن المشكلة في الكثير من الحالات، وبين السعوديين على وجه الخصوص، ليست في عدم العثور على عمل، بل توافر الكفايات اللازمة لأداء الكثير من الأعمال المطلوبة في كثير من المنشآت الخاصة، مثل إجادة اللغة الإنجليزية تحدثاً وكتابة، وإجادة اللغة العربية كتابة (وليس بالعامية)!! وتوافر توجهات إيجابية نحو العمل والإنجاز، ورفع سقف التوقعات منهم لإرغامهم على بذل مزيد من الجهد، ووضع حد أقصى لساعات العمل للجميع سعوديين وغير سعوديين؛ إذ لن تجد سعودية مثلاً تشتغل 12 ساعة في مشغل براتب الفلبينيات الموجودات حالياً، فكيف نحل هذه المعضلة؟؟؟