عادت مطالب العودة للخلافة هذه الأيام.. والمطالبون بها لا يدرون ما الذي يطالبون به أخير هو أم شر.. ولكي ندرك ما نطالب به يجب أن نفهمه. ولكي نفهم الخلافة فعلينا نتأمل أولا بموضوعية تحليلية أمينة للمعطيات التي فرضت نظام الخلافة كحكم إسلامي، ثم ننظر إلى تجربة الخلافة عبر القرون ونتائجها، ثم نضع الواقع اليوم والتجارب الحديثة القائمة.
الخلافة لم تأتِ للمسلمين ابتداعا، بل تقليدًا لأنظمة الحكم القائمة آنذاك من الإمبراطوريات، كالأكاسرة والقياصرة فهي مسميات حكام الفرس والروم وبيزنطة، فالمسميات مختلفة ولكن النظام واحد. وجميع البلاد والأمم آنذاك كانت بشكل أو بآخر، حقيقة أو صورة - تحت سلطة إمبراطورية ما، سواء أكان خليفة أو قيصر أو كسرى أو غيرهم من أمم الهند والصين.
وقد كانت كلها أنظمة تقوم على حكم الفرد المطلق المدعوم برجال الدين، سواء أكانوا من أهل الكتاب أو البوذيين.
والذي خلق هذا الشكل من نظام الحكم هو المجتمع الاقتصادي. فباستثناء المجتمعات الهمجية التي كانت قائمة على الغزو والنهب (كالمغول والتتر) فإن جميع اقتصاديات المجتمعات المتحضرة بلا استثناء -الإسلامية وغيرها- كانت إقطاعية لأن الاقتصاد كان قائمًا على الزراعة والرعي، وهذه أنظمة اقتصادية لا تقوم بغير الإقطاع. ومن رحم الثقافة الإقطاعية تولدت فكرة الحاكم المطلق والذي كان يمنح ويحرم ويعفو ويظلم دون محاسبة أو مسائلة.
فإذا انتقلنا إلى تجربة الخلافة فسنجد أنها لم تكن بأفضل من تجارب غيرها من حيث العدالة أو من حيث الفتن والقلاقل. فباستثناء عهد الخلافة الراشد والذي لم يمتد لأكثر من أربعين عامًا- وفي بعض الأحاديث نُقل أنها ستكون ثلاثين عامًا فقط- فقد كان نظام الخلافة في مجمله نظامًا دمويًّا ظالمًا. ووجود بعض الاستثناءات التي لا تمتد إلا لسنوات معدودة، فهذا لا يُعتبر في الحكم على الخلافة، فالاستثناء يظل استثناء لا يتعلق به مصير الأمم.
وبالجملة فقد أثبت التجربة أن الخلافة الإسلامية من بين الإمبراطوريات تعد الأقصر من بين نظم الحكم استقرارًا، والأسرع انهيارًا. فهذا عمر الخلافة الراشدة كان قصيرًا جدًّا، وانتهى بمقتل علي -رضي الله عنه- وتنازع أفضل الخلق من صحابة رسول الله، ومقتل الحسين، واستباحة أموال وأعراض أحفاد الصحابة في مدينة الرسول -عليه الصلاة والسلام-. وكانت الخلافة الأموية مليئة بالقلائل والفتن والدماء، وانتهت الفتوحات الإسلامية مع عهد الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز. وقد سقطت الخلافة ولم تدم أكثر من ثمانين عامًا.
وقامت الخلافة العباسية على دماء ملايين المسلمين، فقد ذكر الذهبي أن أبا مسلم الخرساني وحده قتل ألفي ألف- مليونان- في خراسان وما حولها ليوطد حكم بني العباس. وبعد أنهر من الدماء وتلال من الجماجم المسلمة استقرت الأمور لسنوات معدودة فقط ثم بدأت الفتن الدموية العظيمة التي كان القتل فيها بالملايين. فقد قتل بابك الخرمي مليون ونصف والدولة العباسية ما تزال شابة في أوج مجدها في عهد المأمون. وحصل فيها من الفتن الدينية وامتحان المسلمين أمر عظيم، من أشهرها فتنة خلق القران. وما فعله القرامطة -والخلافة العباسية ما تزال في عصرها الذهبي- من فظائع دموية وقتل الحجاج وسرقة الحجر الأسود لاثنين وعشرين عامًا وهدم الكعبة ومنع الحج، أحداث مشهورة لا داعي لسردها. وبعد ذهاب العصر الذهبي للعباسيين - على دمويته وفتنه وقصر عمره- دخلت الأمة في عصر الممالك والجهل والظلام التي كانت هي وبمشاركة الخلافة العثمانية سبب انحطاط المسلمين.
وأما الخلافة العثمانية فقد فتحت القسنطينة، وهدمت الأمة. فنشرت البدع والجهل والخرافات ومنعت العلم وحاولت فرض اللغة التركية، وضرب خلفاؤها - مع أمراء الأندلس- أكبر أمثلة لفساد الحكام والعبث والمجون وتسخير الشعوب لبناء قصورهم وترفيههم وعوائلهم، بدلًا من تسخيرهم للعلم العام المفيد للأمة. ثم أتينا نحن اليوم نفتخر بها ونجعلها مجد المسلمين. وعللنا نفوسنا ببعض العلوم التي أنشأها علماء هنا وهناك قاموا بأنفسهم، وواجهوا الاضطهاد والتهميش والفقر، ثم نسبنا فكرهم إلى فضل الخلافة، وما كانت الخلافة داعمة لهم قط. ولم تستطع الخلافة في أوج عهودها أن تحمي الناس من القتل والفتن فكيف يُنسب إليها حماية الثغور. والخلافة هي من أضاعت بلاد الشام وفلسطين وما أرجعها إلا من استقل عنها، الأيوبيون. فما كانت الخلافة حصنا للثغور إلا نادرا، بل كانت الممالك والأمارات الخارجة عنها هي من تقوم بذلك ذودا عن ممالكها وديارها وأموالها، وقد كانت الخلافة تشاغل هذه الممالك بالمكائد والتحريض عليها ومناصرة أعدائها. فهل نريد العودة للخلافة؟ وعلى افتراض الصورة الوردية للخلافة التي أوهمنا أنفسنا بها، فهل هناك اليوم من يصلح لكي يكون حاكمًا مطلقًا والناس لم تقبل عليا فخرجوا عليه وقتلوه -رضي الله عنه- وقد كان أفضل الخلق عند موته كما لم يقبلوا الحسن والحسين من بعده -رضي الله عنهم-. وهل نريد الخلافة في عصر الصناعة ونبذ الإقطاع. هذه أوروبا قد تعلمت من تجاربها فلم تدعُ إلى نظام إمبراطوري كنظام الخلافة، بل دعت إلى وحدة استقلالية، لم تزل تحت التجربة. ندعو للخلافة ونفتخر بصلاح الدين! نحن لا نكتفي بأن نقلد الماضي، وأن نفكر فتفكيرنا يكون بنفس ثقافة الماضي. والمنطق واحد ولو اختلفت الأزمنة والأمكنة، ولكن الثقافة هي التي تؤثر على الفكر، وقليل من يتحرر منها. فعلى هذا، فنحن اليوم لا فكر لنا. ويا ليت مصيبتنا تقف هنا. ولكننا بالإضافة إلى ذلك، فنحن نخفي تاريخنا وتجاربنا ونحرف ما لا يمكن إخفاءه، فلا نستفيد من تجارب أسلافنا كما استفاد غيرنا من الأمم الحديثة من تجارب أسلافهم وأسلاف غيرهم حين صدقوا مع أنفسهم في تاريخهم، ثم نتعجب لماذا يفشل المسلمون وقد نجح غيرهم. فأين العجب وقد حرمنا أنفسنا من معرفة حقيقة تجارب أسلافنا وتعامينا عن تجارب الأمم السالفة ولا نفتأ نحرف واقع تجارب الأمم المعاصرة.
hamzaalsalem@gmail.comتويتر@hamzaalsalem