استمعت واستمتعت بكلام أحد الأصدقاء، وهو يروي نقلا عن الدكتور محمد بن عيسى السياسي والدبلوماسي المغربي المعروف، والذي تنقل بين وزارة الخارجية، وسفيرا للمغرب لدى أمريكا، ووزيرا للثقافة، وحاكم (لأصيلة)، ويقول هذا الصديق إن بن عيسى أعطى انطباعا سلبيا عن (أصيلة) قبل المهرجان عام 1978م، وقال إن مدنية (أصيلة) كانت مهملة تنمويا، والشوارع مليئة بالقمامة والناس يرفضون التغيير، والشباب يعيشون حالة من الضياع، وهم مشروع تطرف وإرهاب وتعاطي للمخدرات وتفكك اجتماعي، والمباني التاريخية مهملة.
مشروع بن عيسى، الذي هو مشروع دولة في (أصيلة) هو اهتمام وارتقاء بالمكان والإنسان، لأن الطبيعة مهما كانت جميلة، فهي تحتاج لمجتمع تتوافر لديه مقومات التطور والتحضر، ولا يمكن النهوض بذلك دون توافر الإرادة، والانجاز، والعائد المادي، فثلاثون عاما من مهرجان (أصيلة) كانت كفيلة بالتغيير الإيجابي، وهي عمر الشباب الجديد في مدينة (أصيلة) التي أزاحت التراب عن وجهها، لتصبح مدينة للثقافة، والاقتصاد،.
أصبح للرسامين مكان لتجميل المدينة، وأعيد ترميم المباني الأثرية، وجعل لكل أسرة في (أصيلة) الحق في تأجير شقة سياحية على السياح، وأصبحت لدى مجتمع (أصيلة) ثقافة خاصة بالاعتناء بالسواح، ونمط ثقافي وقيمي، وتجاري في التعامل معهم، ووجدت الحرف الشعبية واليدوية مكانتها في المهرجان طيلة العام، واختفت البطالة، وتراجع العنف والمخدرات والإرهاب، وأصبح مجتمع (أصيلة) مجتمعًا منتجًا له قيم صارمة وفيها مصداقية عالية، لا يمكن كسرها.
(الجنادرية) قريبة من (أصيلة) ببعدها الاقتصادي والثقافي، وتستفيد من تجاربها وخصوصيتها ويفترض أن يكون فيها مطاعم، وفنادق، ومسابح وملاعب للأطفال، وللكبار وممشى لكبار السن ممن يرغبون في تغيير نمط عاداتهم، والعمل على تعريف المواطن والسياح بماضي الآباء والأجداد، والوسائل البسيطة التي كانوا يعتمدون عليها في حياتهم، ومركز إعلامي وصحفي وثقافي يتحاور فيه المثقفين والكتاب، وتعرض فيه مؤلفاتهم وتجاربهم، ومكتبة متخصصة بالتراث الوطني والخليجي والعربي، وتمنع السيارات من دخول القرية بحيث يكون لها قطاراتها الصغيرة ونقلها وطابعها الخاص، وتشرف عليها الجهات الأمنية. لهذا فأننا نود أن نسمع عن قرية (الجنادرية)، كما سمعنا عن (أصيلة) وعن الأسر المنتجة، وقد استمعت لواحدة منهم أثناء مروري قرية (الجنادرية)، وهم يتمنون أن يكون هناك مخطط نموذجي دائم لقرية تراثية متكاملة، تحت مسمى (قرية الجنادرية) تستمر طيلة العام، فكل زائر يلحظ وبشكل لافت قوة عمليات البيع والشراء وازديادها عامًا بعد عام، وقد ذكر لي أحد الحرفيين أنه عاد لمزاولة مهنته في الجنادرية بعد انقطاع طويل، وذكر آخر أنه ينتج طيلة أيام السنة ويبيعها بالكامل خلال مهرجان (الجنادرية) فالجنادرية مهرجان ثقافي وله بعد إنتاجي واقتصادي.
ينبغي إشراك القطاع الخاص في دعم هذه المشاريع، وتحقيق مزيد من الشراكة بين القطاع الرسمي والقطاع الخاص، وان لا يكون على شكل استثماري تنافسي، وإنما كمساهمة وطنية من هذه الشركات، وبالشكل الذي يصل إلى تحقيق الهدف المنشود، وهو تنمية الاقتصاد الوطني وإيجاد فرص عمل للمواطنين. (الجنادرية) فتحت أبواب رزق كثير من الحرفين والمهنيين، وأعيد إحياء مهن كانت قد اندثرت، وصناعات وطنية ومقتنيات شعبية، حيث جمع المهرجان عددا كبيرا من الصناع، والحرفيين والممتهنين والهواة من كل أنحاء الوطن لمزاولة صناعاتهم التقليدية، وعرضها وبيعها للجمهور مباشرة، وتعد (الجنادرية) اليوم عنصر جذب للزائرين، وفرصة عظيمة لتفعيل الاستثمار فيها اقتصاديا، لتضيف دعما للاقتصاد الوطني، وتسهم في استيعاب الأيدي العاملة الوطنية.
شكرا لخادم الحرمين الشريفين - حفظه الله - لرعايته مهرجان (الجنادرية)، وشكرا للأمير متعب بن عبد الله، والأستاذ عبد المحسن التويجري الرائع والمتألق دائما، والشكر موصول للأستاذ حسن خليل ولكل من شارك، وساهم في نجاح (الجنادرية)، وهنيئا للوطن بأبنائه المخلصين ولكل من ذكّرنا بأصالة الآباء والأجداد، وتاريخهم المجيد وإنتاجهم العريق، وربط ماضينا يحاضرنا المشرق، وجمعنا على حب الوطن.
Ahmed9674@hotmail.comمستشار مالي - عضو جمعية الاقتصاد السعودية