لا يقصد من هذا العنوان أن المركزية لا توجد إلا في الوزارات، ولكنها هي المدبر الرئيس للجهاز التنفيذي في الدولة، ويبرز فيها أكثر من غيرها تأثير مركزية التنفيذ ولا سيما في مجال الخدمات.. وأضرب أمثلة لما أعنيه بالمركزية فيما يلي:
“أ”: تفرد المركز في الجهة -ديوان الوزارة مثلاً- باتخاذ القرارات اللازمة لتنفيذ خطة أو سياسة معينه وقصر سلطة الإدارات المحلية (المديريات في المناطق مثلاً) على تنفيذ القرار كما هو فحسب -دون وجود آلية لمناقشة القرار والمشاركة في صنعه قبل صدوره؛ أي اختزال دور المديريات في تلقى الأوامر والتوجيهات ومن ثم تنفيذها. إنها مركزية القرار.
“ب”: استقبال ما تعرضه المديريات من مشكلات وصعوبات تواجهها في تنفيذ القرار ليقوم المركز نفسه بوضع الحلول، مما يقوى سلطته ويجعل المديريات عالة علية، فتنشأ بذلك دائرة مغلقه تبدأ بصدور القرار من المركز في اتجاه المديرية التي تعرض مشكلات التنفيذ على المركز، فيصدر هذا توجيهاته التي تحمل حل المشكلة إلى المديرية -وهكذا دواليك، بدلاً من منح كل مديريه صلاحيات تجعلها تحل مشكلاتها بنفسها، ثم تحاسب على النتائج.
“ج”: عدم اعتماد ميزانية خاصة كاملة البنود لكل مديرية أو منشأة ذات تشغيل مستقل، وما يترتب عليه من مركزية في توزيع المخصصات المالية والوظائف وفي التعاقد والترقيات والابتعاث، ومن فقدان للتوازن بين الصلاحيات الممنوحة على الورق وحدود استخدام الموارد التي يوزعها المركز. وعلى سبيل المثال لا بد من تأكيد حجز المبلغ لدى المركز قبل الشروع في أي مشروع؛ ثم لابد من رفع أمر الصرف إلى المركز لإصدار أمر الدفع إلى وزارة المالية، وقد يعاد إلى المديرية لاستدراك ملاحظة ما، وقد يتأخر الصرف لسبب أو لآخر، مما يزعج المورد أو المقاول إذا كان لغير مخالفة نظامية، ويضعف موقف المسؤول المحلى الذي لا حول له ولا قوة.
أبرز مظاهر المركزية هو التضخم الوظيفي.. ذلك لأن قمة الهرم الإداري التي تتخذ القرارات وتمنح الصلاحيات وتوزع الموارد وتراقب وتدقق وتعتمد المشروعات والخطط وتضع اللوائح والتنظيمات تحتاج لعدد كبير من الموظفين الذين تتدرج مراتبهم الوظيفية تبعاً لدرجات الأهمية والمسؤولية والخطورة في أعمال المركز؛ وكلما زادت الأعمال الواجب تصريفها نشأت الحاجة لمزيد من الإدارات والموظفين والقيادات والمراتب العليا. إلا أن هذا ليس السبب الوحيد للتضخم الوظيفي، بل هناك السعي الدائم لإحداث وظائف جديدة بمراتب أعلى لأغراض الترقية، وتبقى الوظائف القديمة ليرقى عليها من بعدهم، وهكذا.
ولأن المسؤول الأعلى في قطاع من قطاعات الوزارة لا يحيط بتفاصيل كل موضوع يحيل الأمر إلى المستوى التالي ثم الذي يليه حتى تصل إلى الموظف المختص الذي يعد أساس الإجراء المطلوب ثم يرفعه إلى المستوى الأعلى فالأعلى حتى تصل لصاحب الصلاحية الذي ربما يستفسر أو يستشير أو يشكل لجنة قبل إصدار التوجيه اللازم. وهذه السلسلة الطويلة من الخطوات تأخذ من الوقت والجهد ما يجعل العمل بطيئا واتخاذ القرار متأخرا. وهذا المسار البيروقراطي مظهر آخر للمركزية؛ بل إن البيروقراطية هي بنت المركزية. ولكن: هل المركزية شر لابد منه؟.. إن الحكومة في أي عصر وأي مكان مسؤولة عن تنفيذ القوانين والتشريعات ووضع السياسة العامة وخطط التنمية وعن توفير الأمن ومراقبة النظام العام وعن ضمان توفر الموارد اللازمة للحياة... إلخ. وهي تقوم بذلك من خلال أجهزة السلطة التنفيذية.. وفي مراحل التأسيس تكون جميع التعليمات والقرارات والإجراءات مركزية إلى أن يستتب النظام الإداري بها وتتضح الاختصاصات ويتوافر الأشخاص المنفذون المدربون وتتفرع الأعمال وتتنوع، ويزداد وعي المجتمع المحلي وتطلعاته. وعندئذ تستجيب تلك الأجهزة بأن تترك للإدارات المحلية المهام التنفيذية بأكبر قدر ممكن من الصلاحيات وسلطة اتخاذ القرار، وتنشئ مقابل ذلك وحدات متخصصة للمتابعة والمساءلة وتقويم ما تحقق من النتائج والأهداف، وتتخذ في ضوء ذلك خطوات التصحيح والتطوير لخططها وسياساتها. بذلك تتحقق اللامركزية عن طريق تفويض الصلاحيات. أما الطريق الآخر للامركزية فهو نقل الاختصاصات، وذلك بإنشاء مؤسسات مستقلة متخصصة تأخذ عن الوزارة ذات العلاقة جزءاً من أثقالها وتمكنها من أداء مهماتها الأساسية. على سبيل المثال أنشئت هيئة متخصصة مستقلة أسندت إليها مهمة تنفيذ الرقابة ووضع المعايير واللوائح والتراخيص في شئون الغذاء والدواء فانتشلتها من زحام الأعمال في وزارات الصحة والزراعة والتجارة. وأسست كذلك الشركة الوطنية للشراء الموحد للأدوية والمستلزمات الطبية التي ينتظر منها أن تزيح عن الجهات الصحية أعباء الانشغال بإجراءات الشراء والتوريد والتوزيع.
فإذا كان هذا هو التطور الطبيعي للتنظيم الإداري الصحيح فلماذا بقيت حال المركزية قائمة في بعض وزاراتنا، وهل تصمد المبررات التي أوردها الآن أمام منطق التطور؟
أولاً: وضعت التنظيمات الإدارية والقواعد واللوائح المنظمة للعمل في مرحلة التأسيس من قبل خبراء عرب، في ظرف لم يكن فيه متخصصون وطنيون، ثم تطور التنظيم الإداري في حقب مختلفة على يد مؤسسات متخصصة (مؤسسة فورد، ثم معهد الإدارة العامة، واللجنة الوزارية للإصلاح الإداري- كما سميت سابقاً). إلا أن التطوير انصب غالباً على التنظيمات المركزية دون الأطراف؛ كما أن الأنظمة ولوائحها لم تتغير، وكذلك المفهوم الاجتماعي للإدارة. لم ينظر للإدارة كمنهج لتسيير العمل واتخاذ القرار بل كمنصب وأداة للسلطة والأمر والنهي من أعلى إلى أسفل؛ وهو مفهوم ورثناه في ثقافتنا كابراً عن كابر. هذا المفهوم المتخلف يرى في تفويض الصلاحيات تفريطاً في السلطة والمنزلة، ولذلك يقيد العمل الإداري بسلسلة من الإجراءات البيروقراطية. وفي هذا النفق البيروقراطي الطويل لا يستطيع المركز تقويم أداء العاملين من حيث كفاءته أو جودة مخرجاته، وإنما يقيم ما أنهوا من إجراءات واستنفدوا من موارد، وهم أيضاً حريصون على رضا المركز أكثر من رضا المستفيدين والنتائج المستهدفة، لأنهم أصلاً كانوا متلقين للتعليمات ومطلوب منهم تنفيذها.
ثانياً: تتحفظ جهات رسمية نافذة على اللامركزية عن طريق نقل الاختصاصات إلى هيئات أو مراكز ذات ميزانية خاصة بها.. فبعضها يخشى التعارض مع مبدأ وحدة الميزانية، وبعضها يرى أن إنشاء الهيئات المستقلة يضخم الجهاز الوظيفي للدولة بما يتطلبه من وظائف جديدة. إلا أن تجربة الكيانات الإدارية المستقلة التي قامت حتى الآن تبين عكس ذلك. إذ إن التخفيف من المركزية يقود إلى سرعة أداء الخدمة وكفاءتها، ويقلل من الخسائر الناتجة عن بطء الإجراءات وتعددها وتأخير القرارات.
ثالثاً: تتكرر المحاججة بضعف الجهاز الإداري خارج المركز (المديريات مثلاً) لعدم توافر الكفاءات والقيادات القادرة على اتخاذ القرارات الصعبة، ولشدة تأثير الانتماءات القبلية والعائلية على متخذي القرار هناك، ولبعد الموظفين عن رقابة المركز.
هذه الذرائع كانت مقبولة في مراحل التأسيس. فلماذا بقيت الإدارات المحلية على وضعها دون تطوير جذري؟.. إنها المركزية مرة أخرى!.. وربما يتغير الوضع جذرياً لصالح تلك الإدارات وتزداد جاذبيتها لو تغلب الأسلوب اللامركزي في التنفيذ ومن ضمنه جعل التعيين والترقية على جميع المراتب الوظيفية في المنطقة من صلاحيات مديريتها، باستثناء المسؤول الأعلى.
الخلاصة من ذلك كله أن المركزية الغالبة على أسلوب عمل الإدارة العليا تضع المسؤولين في الإدارة المحلية في حالة انفصام. فالمركز يطلب منهم أن ينفذوا ما يريد هو، بينما الناس في المجتمع المحلي -وهم أصحاب المصلحة الذين يقابلونهم وجهاً لوجه وهم المستفيدون من الخدمة- ينتظرون منهم أن يقدموا ما يريدون هم. فينشغل هؤلاء المسؤولون بالتوفيق بين الإرادتين ولو تركت لهم استقلالية في اتخاذ القرار في حدود مسؤولياتهم وأهداف الخدمة المقدمة لانتهجوا الخيار الأفضل.
المركزية في التنفيذ عموماً -مع استثناءات فليله تبررها طبيعة العمل حين لا يوجد بديل لها- عائق على طريق التنمية. والتخلص منها واجب لأنه ممكن من خلال توضيح الرؤية والأهداف والقواعد العامة ومن خلال تأهيل القيادات المحلية واختيار الأكفأ، مع تقوية آليات المتابعة والمساءلة والتقويم ومراجعة النتائج.