كتب - عبدالعزيز بن سعود المتعب:
يتلون برَّاقٍ سرى له اشتعالِ
تصبح قنوفه عقب وبله مزابير
«الشيخ راكان بن حثلين» - رحمه الله
ريحة القيصوم والشيح الخضر
والخزامى والنفل زادت حلاة
«عبدالله السلوم» - رحمه الله
لطالما حفل الشعر (الفصيح وصنوه الشعبي بوصف -المطر- الذي هو أساس الحياة والخلق والخير والرحمة للعباد، وقد ورد ذكره بكثرة في القرآن الكريم بلفظ الماء والغيث، مصدراً للفوائد الكثيرة، قال الله تعالى وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاء مَاء فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا (24 سورة الروم).
وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء طَهُورًا (48) سورة الفرقان).
وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِن بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ (28) سورة الشورى).
وذكر العرب للمطر نابع من عشقهم له، فهو مبعث الحياة الخصب وبه حصول معايشهم من رعي وسقي وزرع، لذلك عرفوا خصائصه وأحواله واستدلوا على نزوله بالرياح وألوان السحب، وأنواع البرق وأصوات الرعد، ونما لديهم علم كثير وغزير عنه، وقد ورد في كلامهم المنثور والمنظوم ما يشير إلى رسوخ هذا العلم، وعمق هذه المعرفة التي نتجت عن طول تجاربهم اليومية المستمرة(1).
وقد اتبع الشعراء في وصفهم للمطر بعض الأسس التي وضعها السابقون وتداولها اللاحقون ويمكن تلخيصها في الموضوعات التالية: كمناجاة الصاحب والرفيق، والسهر والأرق لمشاهدة البرق، ووصف عوامل خلق المطر من رياح وسحاب ورعد وبرق، وعملية نزول المطر في اندفاعه وغزارته واشتداده، وآثار المطر على الطبيعة وكائناتها، والدعاء بالسقيا للأحبة وديارهم.
ووضع شعراء العرب في وصف المطر وتشبيهاته أسساً وألموا بذكره في أشعارهم إلماماً واسعا، ومن هؤلاء الشعراء امرؤ القيس، ذلك الشاعر المبدع الذي أقام بنياناً قوياً لصور المطر، وأكثر من وصفه في ديوانه وتغنى بصفاته حتى عده النقاد والشعراء من أجود الذين وصفوا المطر؛ فقد كان مبرزاً في هذا المجال لأنه يصفه بحرارة عاطفته وصدق أحاسيسه وحبه له.
ففي معلقته الشهيرة يقدم مشهداً كاملاً متنامياً لرحلة المطر من السماء إلى الأرض، يشعرنا بقوة هذا المطر وغزارته واندفاعه الذي بدأه بوصف البرق ووميضه الذي يلمع كلمع اليدين، أو مصابيح الراهب، وما كان هذا البرق، وما كان هذا البرق إلا مبشراً ونذيراً بما يحمله سحابه من أمطار غزيرة كالطوفان، ما لبثت أن انهمرت بشدة وقوة حتى غدت سيلاً عنيفاً جباراً اكتسح كل شيء وأطاح بالأشجار العظيمة وهدّم البيوت إلا ما قوي منها، وأحاط بجبل «طميّه» واستدار حوله فغدا كفلكة مغزل وغشى جبل (أبان) بأفانين ودقه وعمّها بالخصب وانواع النباتات والنور والزهر، فكأنما نزل بها تاجر يماني فنشر ما في عيابه من برود وأنواع المتاع والطيب، ووصف الأثر السلبي لهذا المطر الذي أحدثه سيله في الحيوان من سباع غرقى وعصم قد روعت وأنزلت من مآمنها في أعالي الجبال؛ حيث يقول:
أَحارِ تَرى بَرقاً أُريكَ وَميضَهُ
كَلَمعِ اليَدَينِ في حَبِيٍّ مُكَلَّلِ
يُضيءُ سَناهُ أَو مَصابيحَ راهِبٍ
أَهانَ السَليطَ في الذَبالِ المُفَتَّلِ
قَعَدتُ لَهُ وَصُحبَتي بَينَ حامِرٍ
وَبَينَ إِكامِ بُعدَ ما مُتَأَمَّلِ
وَأَضحى يَسُحُّ الماءُ عَنكُلِّ فَيقَةٍ
يَكُبُّ عَلى الأَذقانِ دَوحَ الكَنَهبَلِ
وَتَيماءَ لَم يَترُك بِها جِذعَ نَخلَةٍ
وَلا أُطُماً إِلّا مَشيداً بِجَندَلِ
كَأَنَّ ذُرى رَأسِ المُجَيمِرِ غُدوَةً
مِنَ السَيلِ وَالغُثّاءِ فَلكَةُ مِغزَلِ
كَأَنَّ أَباناً في أَفانينِ وَدقِهِ
كَبيرُ أُناسٍ في بِجادٍ مُزَمَّلِ
وَأَلقى بِصَحراءِ الغَبيطِ بَعاعَهُ
نُزولَ اليَماني ذي العِيابِ المُخَوَّلِ
كَأَنَّ سِباعاً فيهِ غَرقى غُدَيَّةً
بِأَرجائِهِ القُصوى أَنابيشُ عَنصُلِ
عَلى قَطَنٍ بِالشَيمِ أَيمَنُ صَوبِهِ
وَأَيسَرُهُ عَلى السِتارِ فَيَذبُلِ
وألقى ببيسان مع الليل بَركَهُ
فأنزل مِنْهُ العَصمَ من كُلِ منزلِ
ومن أدق وأجزل ما وصف به المطر وما يصاحبه من حل وترحال قول الشيخ راكان بن حثلين -رحمه الله-:
يتلون برّاقٍ سرى له اشتعالِ
تصبح قنوفه عقب وبله مزابير
وفي وصف أشبه بلوحة فنية لما يعقب المطر من ربيع وخير، يقول الشاعر مرشد البذال - رحمه الله:
الله على والعمر ما دام برفاق
ما دام عن دورات الايام مرفوق
شوف الغدير بحاجر الروض لهّاق
والبيت توّه باطرف النقع مطقوق
ويقول الشاعر سعد بن جدلان -مُفعّلاً - ما اعتادت عليه نفس العربي الأصيل في الترويح عن النفس وما يبعث على بهجتها:
يا زين المشي في الروض الخضر لا شعشع المخضار
يا زين الديره اللي من حقوق الوسم ممطوره
يريح البال سَجٍّ في الفياض الخضر والمسيار
سعادة للقلوب اللي من السلوان مسروره
ويصف الشاعر عبدالله السلوم -رحمه الله- ما يصاحب أمطار الربيع من مناظر آسرة لنباتات لها تأثيرها الآسر ولها روائحها المميزة؛ كالقيصوم، والشيح، والخزامى، والنفل:
ما حلا المجلاس في وسط الزهر
والطيور أسراب حولك ساجعات
في رياضٍ ربّعت عقب المطر
مابها غير الوضيحي والمهاة
الجداول فيه تمشي كالنهر
والغصون الخضر فيها سابحات
ريحة القيصوم والشيح الخضر
والخزامى والنفل زادت حلاة
(1) محبوبة محمد زاده