لم يكن تأكيد وزارة الداخلية السعودية - قبل أيام -، بأنه: “ لم يصدر أي دعوة من ولي الأمر للجهاد، في ظل عدد من الدعوات المخالفة للشريعة الإسلامية التي تنتشر، وتدعو إلى ذلك”، سوى قراءة صحيحة لامتداد تأثير الصراع الدائر في المنطقة، والذي أصبح يمثل تهديدا واضحا لدولها.
وما لم يتم احتواء هذه التأثيرات، والسيطرة عليها، فستلتبس النصوص الشرعية بواقعات السياسة.
ذلك أن المصالح المطلوب تحصيلها، قد تكتنفها مفسدة، أو عدة مفاسد، أو أن المفاسد المطلوب دفعها، تكون مختلطة بمصلحة، أو عدة مصالح. ولن يتحقق الفقه في هذا الباب إلا بإدراك الدلائل الشرعية، والقرائن الخفية، سواء عند الإقدام، أو الإحجام. إذ قد يكون الأمر في ظاهره الصلاح، ومآله غير ذلك، ومثله إذا كان الأمر في ظاهره الفساد، ومآله غير ذلك.
إن القدرة الممنوحة شرعا لولي الأمر، ستمكنه من القيام بالحفاظ على الدين، ورعاية مصالح العباد وفق مقصود الشارع، ومبادئه، وقواعده. ويتفرع عن هذين الواجبين الكثير من الواجبات الفرعية، وهو ما يمليه مصطلح “السياسة الشرعية”، والتي تُعنى بتحصيل المصالح، وتكميلها، وتقليل المفاسد، ودرئها، وتعطيلها.
وتأسيسا على ما سبق، فإن المسائل العظيمة التي تحل بالأمة، ومنها “ الجهاد “، لا تُعرف إلا بالشرع، ويكون القول الفصل فيها لأولي الأمر، وليس لكل أحد. فالجهاد المشروع لا يكون إلا بإذن ولي الأمر، فهو من ينظم الجهاد، ويعد له عدته، وهذا هو مقتضى العلم، والعقل، والحكمة. وتأمل على سبيل المثال، رسالة المشايخ: عبد الله بن عبد اللطيف بن عبد الرحمن، وحسن بن حسين، وسعد بن حمد بن عتيق، ومحمد بن عبد اللطيف، وفيها: “ إلى جناب عالي الجناب، الإمام المفخم، والرئيس المكرم، عبد العزيز ابن الإمام عبد الرحمن آل فيصل.. ورأينا أمرا يوجب الخلل على أهل الإسلام، ودخول التفرق في دولتهم، وهو الاستبداد من دون إمامهم، بزعمهم أنه بنية الجهاد، ولم يعلموا أن حقيقة الجهاد، ومصالحة العدو، وبذل الذمة للعامة، وإقامة الحدود، أنها مختصة بالإمام، ومتعلقة به، ولا لأحد من الرعية دخل في ذلك إلا بولايته؛ وقد سئل صلى الله عليه وسلم عن الجهاد، فأخبر بشروطه، بقوله صلى الله عليه وسلم: “ من أنفق الكريمة، وأطاع الإمام، وياسر الشريك، فهو المجاهد في سبيل الله “، والذي يعقد له راية، ويمضي في أمر من دون إذن الإمام، ونيابته، فلا هو من أهل الجهاد في سبيل الله “ الدرر السنية (9 - 95).
وقد ظهر - مع الأسف - من أفتى في مسائل الجهاد، فاعتركت في المختلف فيه، وصمتت عن تضييع المتفق عليه؛ ليزجوا بشبابنا في فتن مدلهمة، لاسيما وأن مناطق الصراع مضطربة، والأحوال ملتبسة، فحدث خلل كبير في الخروج إلى تلك الأماكن بما لا يحمد عقباه. مع أنه من القواعد المهمة في فقه الجهاد: لزوم غرز العلماء، وهذا من فقه مقاصد الشريعة، سواء فيما يتعلق باستنباطهم الأحكام من النصوص الشرعية، أو ما يتعلق بإيضاحهم للشرع. وهذا المنحى، هو الموافق لما قاله العلامة محمد بن صالح بن عثيمين - رحمه الله - في “ الشرح الممتع - (8 - 25)، بأنه: “ لا يجوز غزو الجيش إلا بإذن الإمام مهما كان الأمر؛ لأن المخاطب بالغزو والجهاد هم ولاة الأمور، وليس أفراد الناس، فأفراد الناس تبع لأهل الحل والعقد، فلا يجوز لأحد أن يغزو دون إذن الإمام إلا على سبيل الدفع، وإذا فاجأهم عدو يخافون كلبه، فحينئذ لهم أن يدفعوا عن أنفسهم؛ لتعين القتال إذن. وإنما لم يجز ذلك؛ لأن الأمر مناط بالإمام؛ فالغزو بلا إذنه افتيات، وتعد على حدوده؛ ولأنه لو جاز للناس أن يغزوا بدون إذن الإمام لأصبحت المسألة فوضى، كل من شاء ركب فرسه وغزا، ولأنه لو مكن الناس من ذلك لحصلت مفاسد عظيمة، فقد تتجهز طائفة من الناس على أنهم يريدون العدو، وهم يريدون الخروج على الإمام، أو يريدون البغي على طائفة من الناس”. بقي القول: إن تجريد القصد لله تعالى، ووضع مصلحة البلاد وأهلها في التوحد على أساس شرعي، لا يقدرها إلا أولو الأمر عند التطبيق، وتحقيق مناط النصوص على أرض الواقع. وليس للقارئ الذكي، وغير الذكي أن يستنتج ما يشاء؛ لأن مقاصد الشريعة تمثل ضابطاً لأحكام السياسة الشرعية الواقع، وضرورة مراعاة الظروف المتغيرة، والموازنة بين المصالح، والمفاسد.
drsasq@gmail.comباحث في السياسة الشرعية