ليس من الحكمة أن تتعامل مع الكل بمقاييس القيم العالية التي تؤمن بها، والنواميس الإنسانية التي اكتسبتها وتربيت عليها، وما أحاطك به مجتمعك الفخور بتمسكه بشريعة الله السمحة الداعية للحب والتسامح والعطف وحسن الظن حين التعامل مع أخيك الإنسان، هذا هو المؤمّل من كل منّا على اعتبار أن الحديث عن أسوياء يحبون لغيرهم ما يحبون لأنفسهم، ويُقدّرون قيمة الإنسان وأن له حقوقاً، كما أن عليه واجبات تجاه الغير، هذه النظرة والدرجة من التعامل إن طبّقتها مع كل شرائح وفئات البشر، فإنك قد تقع في بعض الأخطاء، ليس لسوء في سلوكك ما دمت على هذه الدرجة من حسن الخلق والتمسك بقيمك العالية السامية، إنما لسوء قياسات من تتعامل معه، فليس كل إنسان كفء لأن تمنحه هذه النسبة المرتفعة من التعامل الراقي، لأنه لن يكتفي بعدم تقدير هذه المواقف الرائعة منك تجاهه، بل سيزيد بنظرة دونية بحقك واستخفافاً بقدراتك العقلية، لأنه يصدر في حكمه من منابع قيمية غير منابعك الصافية النقية الطاهرة، ومن قصور ذهني ونفسي يتملّكه نتيجة افتقاره لهذه القيم والسجايا النبيلة التي تتمتع بها وحُرم إياها، وهي التي تمنعك من النزول والانحدار لمستواه المتدني في التعامل، ويصدّه الحرمان منها من الصعود للوصول لمستواك القيمي الأخلاقي العالي، فتكون هذه الفجوة بين شخصين يتعاملان بنسقين متناقضين، وغالباً ما يكون ترفّعك عن الصغائر مجالاً خصباً لاستثمار قليل الحضّ من القيم الإنسانية العالية الذي لا يتورع - حسب إملاءات عقليته الضّحلة - من استغلال المواقف معك ما أمكنه ذلك للنيْل منك بأي شكل يرضي قصوره وضآلة تركيبته النفسية، وهذه الصور من الانتهازية يرى فيها من تشوبهم النواقص الفكرية النفسية إبداعاً وذكاءً و(فهلوة)، وهذا القياس يتم بحسب معطيات القيم المتدنية التي تعتري مشاعرهم وأحاسيسهم بما يُمكن قراءته من الأسوياء على أنه مجرد صور متفاوتة من صور الغباء والشحّ الاخلاقي وتآكل في مبادئ التربية التي تلقوها من الأسرة والمجتمع، ولم تجدِ معها كل دروس التربية والمواد الدينية في المدرسة والمسجد ووسائل الإعلام بتنوعها المعرفي الثقافي، ومن هؤلاء من ينظر إلى حكمتك في تطبيق نظرية التغافل - كقيمة وخصلة إنسانية راقية لا يجيدها إلا من أُوتي الحكمة من عقلاء القوم - فيرون فيها صورة من صور الضعف التي تشجعهم على الاستهانة بك ومحاولة استغلال المواقف معك بأبشع صور النذالةالاستخفاف بكل الأعراف والنظم، وقبل كل ذلك الأخلاق ونسف كل ما مرّ على مسامعهم من تعاليم منبعها القرآن والسنّة، تأمرهم بالعدل والإحسان وتقوى الأنفس، لا يفرقون بين الغفلة والتغافل ولم يدرك هؤلاء لضمور في مداركهم أن تغافل العقلاء من أقوى سمات الشخصية السويّة، ومن أبرز علامات النفس الزكية ومن أثبت أعمدة توازن وتماسك الجوانب المكونة للمبادئ المختزنة في الذات الإنسانية الراقية، هنا قد نستذكر الرجل النوبي الصالح في زمن داود عليه السلام (لقمان) الذي منّ الله عليه بالحكمة، فمما قال: يا بني، بئراً شربت منها لا تلق فيها حجراً، لا أطيب من القلب واللسان إذا صلحا، ولا أخبث منهما إذا فسدا.
t@alialkhuzaim